الخطوات المطلوبة بعد إقرار دستور مصر 2012

انتهى الاستفتاء، وفاز الإسلام السياسي، وخسر اللبراليون، فهل ينتهي التوتر والاحتقان؟!
ما هي الخطوات المطلوبة ليخرج الناس من هذه المحرقة وليبني المصريون بلدهم؟
هل التدين شقاء، أم أنه شعائر ومناسك تحقق الطمأنينة وتنشر المودة والوئام في المجتمع؟!
هل السياسة شقاء، أم هي حراك سياسي لمصلحة البلد؟
إن كل الناس تختلف سياسيًّا في الدول المتحضرة، ولكن لا يدمرون البلد، لا يحولونها إلى خرابة ويقعدون على تلها؟

يا ليتنا نسمع منكم يا مشايخ ما المطلوب بالضبط؟! وترسمون لنا خارطة طريق نسير عليها.
يا رب اهد مشايخنا وساستنا وكل الناس؛ يرجعوا لعقلهم ثانية، ويرجعوا لدينهم السمح البسيط ثانية، كي نبني بلدنا، ونربي أولادنا، ونعبدك يا رب.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فأبادر بعد التأمين على دعائك فأقول: إنه ليس في الاستفتاء غالب ومغلوب، بل ينبغي أن نستشعر جميعًا أننا شركاء في وطن واحد، يستقلون سفينة واحدة، ويمخرون بها في بحر لجي، وقد غشيها موج كالظلل، وهم يصارعون جميعًا من أجل إنقاذ السفينة، والمحافظة على حياة ركابها، والحيلولة بينها وبين الغرق، من لم يتصور المشهد على هذا النحو كان مغيبًا، أو ظالمًا لنفسه ولأمته.

ثم أثني بأنه قد آن الأوان بعد إقرار الأغلبية لهذا الدستور، وبعد أن أثبتت هذه الأغلبية التي أقرته أننا لسنا نجمًا فقد موقعه، أو كوكبًا أضاع مداره، بل إن لنا وجودًا ثابتًا وراسخًا على خريطتي الزمان والمكان. 

وإن الإسلام بمقاصده السامية وقيمه المجيدة وشريعته الغراء؛ يشكل هويةً ذاتيةً ومرجعيةً حضارية لأبناء هذه الأمة، يحفظ عليها وجودها، ويبرز ملامح خصوصيتها، ويشكل مضمون خطابها للناس أجمعين. 

نقول: لقد آن الأوان في ظل الإقرار بهذه المرجعية الحضارية أن يتداعى الناس إلى الاجتماع على مشترك من الخير العام، إلى حِلف فضولٍ جديد، أو إلى صحيفةِ مدينة جديدة.

وحلف الفضول كان في زمان الجاهلية، وأقره نبينا صلى الله عليه وسلم  بعد البعثة، فلقد تداعى الناس في زمان الجاهلية إلى هذا الحلف الذي تقاسموا فيه على نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم، وشارك فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكره في الإسلام مشيدًا به، مبينًا أنه لو دعي بمثله في الإسلام لأجاب(1).

أما صحيفة المدينة فقد كانت بعد البعثة، أقامها النبي صلى الله عليه وسلم  في المدينة بعد الهجرة، وأرسى عليها دعائم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية الجديدة في المدينة. وقد عالجت ثلاثة ميادين رئيسة تتعلق بمكونات المجتمع الجديدة بالمدينة من المسلمين واليهود، ومن لحق بهؤلاء أو بهؤلاء، ثم تناولت أحكامًا عامة تتعلق بشئون الحرب والسلم.

فقد روى ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  لما قدم إلى المدينة وادَعَتْه يهودُ كلها، وكتبوا فيما بينهم كتابًا، فألحق كل قوم بحلفائهم وشرط عليهم ألا يظاهروا علينا عدوًّا(2). فانتظمت بذلك أول وثيقة دستورية في تاريخ الأمة، لتكون نبراسًا هاديًا لما يأتي بعدها على مدى الزمان وعلى مدى المكان.

إننا نحتاج الآن إلى حراك لترتيب البيت الدعوي، ثم حراك آخر على التوازي لترتيب البيت الوطني الكبير؛ للالتقاء على عهدة وطنية ترسخ معالم التعايش، في ظل تعددية دينية وسياسية وفكرية، تحمي الحق في المحافظة على الخصوصيات والثوابت من جهة، وترعى اللحمة الوطنية وتماسك النسيج الوطني من جهة أخرى، وهي علاقة بنيت في كتاب الله على البر والقسط. والمطلوب أن نبرز ترجمة هذين المبدأين إلى مفردات سياسية وحقوقية واجتماعية وأخلاقية في واقعنا المعاصر.

ثم حراك لترتيب ملف تطبيق الشريعة بكل جوانبه الشرعية والسياسية والوطنية وغيرها، ووضعه في الإطار الصحيح تصورا وتنفيذًا.

ثم حراك لاستشراف آفاق المستقبل كما يتمناه شركاء هذا الوطن الكبير المثقل بالجراحات في هذه الأيام.
وسوف نخصص هذا الجواب للحديث عن ترتيب البيت الدعوي أولًا، ثم نتابع الحديث عن بقية هذه الجوانب بإذن الله. وأرجو من السائل الكريم ومن غيره من المتابعين لهذا الجواب أن يصبروا أنفسهم علينا، وأن يتواصلوا مع هذه الصفحة لمتابعة الحديث عن بقية هذه الجوانب تباعًا بإذن الله.

• ترتيب البيت الدعوي:
لترتيب البيت الدعوي الكبير الذي يضم مختلف الناشطين لنصرة الدين، ممن يحملون هم تحكيم الشريعة، وتهيئة الأجواء لاستكمال تطبيقها، وتأكيد الهوية الإسلامية التي يشغب عليها بعض شركاء الوطن في هذه الأيام، ينبغي في تقديري الانتباه إلى هذه المعالم.

أولًا: الاتفاق على وثيقة شرف في العمل الدعوي، تستخلص معالم الحكمة والبصيرة في الدعوة، وتنظم العلاقات بين الدعوة والدعاة؛ لكي تنظم السير، وتضمن انسيابيته، وتمنع الاختناق والتصادم، وتلك مهمة قد أنجزت والحمد لله؛ فقد أعدت جمعية الفكر الوسطي مسودة هذه الوثيقة، ودعت إلى مناقشتها وتسديدها، ولقيت قبولًا واسعًا على مختلف الأصعدة الدعوية والسياسية، وما بقي إلا تفعيل هذه الوثيقة واستفاضة البلاغ بها، ولا بأس بتطويرها وإعادة النظر فيها لتجديدها عند الاقتضاء.

وآكَدُ ما نبرزه في هذا المقام التداعي إلى الطيب من القول، والرُّقي في الخطاب الدعوي، وأن نصبر أنفسنا على من بغى علينا من بني جلدتنا وشركاء وطننا، مهما حملته الحميَّة على السيئ من المقال أو من الأفعال.

إنني على يقين من أن رصيد الخير والفطرة الكامن في نفوس الناس سوف يغلب غشاوة الشر الطارئة عليها، وينتصر في نهاية المطاف. فقط، ينبغي أن نصبر أنفسنا على أمر الله، وأن نستجيب لقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾  [فصلت: 34]، وأن نستبشر بالنتيجة في نهاية المطاف: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]، ولست بغافل عن شدة ذلك على النفس؛ فقد قال ربي بعدها: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35].

إن للصدق نورًا يتلألأ فوق وجوه الصادقين، كما أن للكذب والتزوير ظلمة تغشى وجوه الكاذبين، وبالصبر الجميل وبالبيان الهادئ يميز الله للأمة الخبيث من الطيب، ويجعل لها فرقانًا تفرق به بين الصدوق والكذوب إن شاء الله، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179].

ومما نسوق في هذا المقام للعبرة دعوة نبي الله هود u لقومه ومحاورته لهم وردهم عليهم، فتأمل رحمك الله هذه اللقطة القرآنية الجميلة، لقد دعا قومه إلى عبادة الله وحده وإلى تقواه: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65]، فرموه بالسفاهة واتهموه بالكذب: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [الأعراف: 66]، فلم يستفزه هذا التطاول، ولم يخرجه هذا البغي عن حِلمه، بل ردَّ التهمة عن نفسه بهدوء: ﴿قَالَ يَا قَوْم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 67- 68].

ثانيًا: الاتفاق على وثيقة شرف للعمل السياسي:
فالعمل السياسي لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله(3)، وجميع الأعمال في ذلك سواء.

وعلى هذا فالأصل العام أن يتقيد العمل السياسي بمرجعية الشريعة، وأن ينضبط بضوابط المصلحة الشرعية، وأن يراقب مشروعيته ثلة من الفقهاء والخبراء ممن يحسنون الفهم عن الله ورسوله، ويضعون الأمور في نصابها، فلا يغلقون باب الاستصلاح بالكلية فيفوتون كثيرًا من المصالح الشرعية، ولا يفتحونه على مصراعيه بغير ضابط فيدخلون في دين الله ما ليس منه.

وإذا كانت الأمة قد اصطلحت على هيئات رقابة شرعية داخل المصارف الإسلامية لمراقبة مشروعية عقودها، فإن العمل السياسي أحوج منها لمثل هذه الرقابة، وينبغي أن يسلم القائمون عليه قيادهم لها، وأن يجعلوها حجة بينهم وبين الله عز وجل ، وجُنَّة يتقون بها سخطه وعذابه.

ولا يَجمُل أن يكون بين لاعبي الكرة والمتنافسين في مبارياتها ضوابط ومعالم تمنع التظالم والتصادم، وأن يتفقوا على جهة يرجعون إليها عند الاقتضاء، ولا يوجد في العمل السياسي عندما يباشره أهل الدين مثل هذه الضوابط وتلك المعالم.

فلابد إذن من الاتفاق على وثيقة شرف لبلورة الضوابط الشرعية والأخلاقية والمهنية التي تحكم المتنافسين في هذا المجال، وليرى الناس من خلالها طهارة العمل السياسي عندما يمارسة الوقافون عند حدود الله عز وجل .

وتلك مهمة قد أنجزت والحمد لله، كما أنجزت من قبل وثيقة شرف العمل الدعوي، وإن كانت لم تحظَ بالجهد الذي بذل في الوثيقة الدعوية، والباب مفتوح فيها لمزيد من التطوير والتسديد، ثم يكون التوجه إلى تفعيلها، واستفاضة البلاغ بها، ولا بأس بمزيد من مراجعتها وإعادة النظر فيها لتجديدها عند الاقتضاء.

ثالثًا: التكامل بين الخطاب الدعوي والخطاب السياسي:
فالخطاب الدعوي يدور في فلك الأصول والقواعد العامة، ويتشوف إلى رفع الهمم لإقامة الدين كما أنزله الله، والارتفاع بسقف الطموحات إلى تغيير جميع المنكرات، فللدعوة فضاءاتها الرحبة، وآفاقها المفتوحة.

ولكن الخطاب السياسي يبحث عن الممكن من ذلك كله، ويدور حديثه حوله، ويقتصد في الحديث عما وراءه، فتحكمه في مواقفه العملية وتصريحاته المقالية ضوابط توفر القدرة وغلبة المصلحة، وهذا مما تختلف مساحته من وقت إلى آخر تبعًا لاختلاف المقدور الذي لا يعارض بمفاسد راجحة. 

فهو خطاب يزن الكلمات، ويقتصد في التصريحات والبيانات، ويدرك أن تصريحًا واحدًا قد يعني إعلان حرب، وقد يعني التعرض لمقاطعة دولية وحصار اقتصادي يلحق بأمته من الأضرار ما لا طاقة لها به، وما لا يحل لقائد أن يدفع بأمته نحوه، فيتقيد في خطابه بالممكن في الإطار السياسي، ويعلم أنه مسئول عما يقوله أمام أمته وأمام المجتمع الدولي، وفيه من المتربصين بالدين وبالأمة ما لا يحصي عددهم إلا الله. 

قد يعلن الخطباء من فوق منابرهم الدعوة إلى إزالة إسرائيل على الفور، وطرد سفيرها على الفور، بل ويعلن بَتْر اليد الأمريكية الداعم الأول لهذا الكيان المجرم على الفور. فيلقى ذلك استحسان الناس وثناءهم.

ولكن رجل الدولة يقتصد في ذلك كله؛ لأن عشر معشار هذا من جانبه يعني كما سبق إعلان الحرب، ويعني الدخول في مواجهة مع المجتمع الدولي بأكمله، وهذا له حساباته وموازناته التي يعرفها الساسة والقادة.

لقد أعلن صدام حسين : في لحظة من لحظات عنترياته أنه سيحرق نصف إسرائيل، فاستُدرج إلى كمين، وسيق بعده مصفودًا إلى المقصلة، بينما لو أعلن مليون خطيب مسجد في العراق الدعوة إلى إحراق إسرائيل بأكملها ما تمعر لذلك وجه، ولا احمرت له أنف.

الخطاب الدعوي ينزع إلى المفاصلة وإعلان البراءة من المخالف، والخطاب السياسي ينزع إلى التعايش، ويتحدث عن المشترك العام من الخير الذي يمكن أن يلتقي الناس على أساسه.

لقد كان الخطاب الدعوي، لاسيما الخطاب السلفي، يؤكد على مفهوم المفاصلة وإعلان البراءة من المبتدعة والفجار ومن ينسبون إلى الردة، واختلف مساره بعد الثورة اختلافا جذريًّا، فلم يعد يعمم في حديثه عن العلمانيين والمناهضين للشريعة، ولم يقف في الخطاب السياسي كثيرًا عند خلافه مع الأشاعرة والماتريدية، بل قبل بمرجعية الأزهر رغم وجود بعض التباينات المنهجية، وهذا نضج ملحوظ في الخطاب، وتوازن الخطاب عند الحديث عن النصارى، وأصبحوا يشار إليهم بشركاء الوطن، وهم كذلك،

ولو برز إلى الساحة شيء من ذلك قبل هذه الأحداث لكان موضع إنكار وخصومة بالغة.
إن أقصى ما فعله رئيسٌ كمرسي عندما ذهب إلى إيران أن أعلن ترضِّيَه عن أبي بكر وعمر وسائر الصحابة من فوق منبر المؤتمر، وقد لاقى هذا استحسانًا من العالم الإسلامي السني برمته، وقد أحسن في ذلك وأجاد وفقه الله، وأرجو أن يجده نورًا يسعى بين يديه في الآخرة.

بينما الخطاب الدعوي لا يقف عند هذا القدر، بل يتعداه إلى ما وراء ذلك بكثير، فلو وقف القرضاوي مثلًا هذا الموقف واكتفى بهذا القدر لكان موضع انتقاد وملامة. 

رابعًا: حصر دائرة الصراع:

فلا ينبغي للقائد الموفق أن يفتح على نفسه عدة جبهات في وقت واحد، بل يحيد ما استطاع من الخصوم، ويتألف منهم من استطاع، حتى يفرغ لأشدهم على الرحمن عتيًّا، لاسيما عندما يكون مبنى الخصومة على الجهالة وسوء التأويل، وقد تمهَّد في أصول أهل السنة أنه يُجاهَد مع الظالم من هو أشد منهم ظلمًا، ومع المبتدع من هو أشد منه ابتداعًا وهكذا.

خامسًا: توظيف الكلمة وإحسان الخطاب:
إن شعبنا عاطفي بطبعه، تأسره الكلمة، وتغير اتجاهه إذا أحسن توظيفها.
لقد كادت ثورة يناير أن تنكسر شوكتها بسبب خطاب أُحسِن إعدادُه للرئيس المخلوع، عندما تحدَّث عن أرض المحيا والممات، وعن رغبته في أن يموت في بلده وبين قومه.

وإن حسن صياغة الكلمة وإجادة انتقائها وتوظيفها كان وراء الكاريزما الهائلة التي تمتع بها عبد الناصر، فسارت الأمة خلفه بلا عقول؛ فقد كان للخطب التي صاغها له الأستاذ هيكل أعمق الأثر في استحواذه العاطفي على مشاعر الملايين، بل وفي تزييف وعي الأمة وافتتانها به حينًا من الدهر، حتى خرجت الملايين بعد النكسة تطالب بعدوله عن التنحي بدلًا من المطالبة بمحاكمته وشيعته على المحرقة التي جر إليها جيشه وأمته.

ونحن لا نريد أن نستخدم البلاغة في تغييب الوعي أو تزييفه معاذ الله، بل في فتح مغاليق القلوب للحق، وتألفها على طاعة الله عز وجل ، وفي دحض شبهات خصوم الشريعة وأباطيلهم، كما كانت بلاغة القرآن وجهًا من وجوه إعجازه، وآية على عصمته وكونه منزلًا من عند الله، وسبيلًا إلى فتح مغاليق القلوب لبيناته

ومواعظه.
وعلى هذا فإن رئيس الدولة وكبار المسئولين فيها ينبغي أن يكون لهم فريق من المتخصصين في صياغة الخطب والتعليقات السياسية والدينية، وألا يعتبر أحد منهم أن هذا الأمر مجرد موهبة شخصية بحتة، بل هو علم من العلوم له أصوله ومتخصصوه فينبغي أن يقللوا ما أمكن من الخطاب الارتجالي مهما تفوق أحدهم في امتلاك ناصية القول، ومهما أوتي من قدرة على الارتجال؛ لأنه يحاسب الرئيس وكبار المسئولين بما لا يحاسب به غيرهم، وتعد عليه أقوالهم وأفعالهم، وتضخم هفواتهم وعثرات منطقهم، ولا

يغتفر لهم ما قد يُغتفر لغيرهم، لاسيما في ظل هذه الأجواء المشحونة بالاحتقانات ضد الدين والمتدينين، وفي ظل تنمر غلاة العلمانية وبقايا الفلول، وقد تقاسموا لَيُبَيِّتُنَّه وأهله. 

سادسًا: وحدة الموقف في المهمات والأمور العظام:

وذلك بإحياء مفهوم الأمة في العمل الإسلامي، وإيمان كل فصيل منه بأن القول الفصل في المهمات والمسائل العظام ليس إليه وحده، وأنه لا يصلح إلا إذا كان على عدل وسواء بين جماعة المسلمين. 

فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا﴾ [الأنفال: 46]، وقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103].

وقد جاء في الصحيفة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم  بالمدينة، بين المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من اليهود أو من غيرهم، أن المسلمين أمة واحدة على من سواهم، وأن سِلْمَ المؤمنين واحدة، لا يُسالم مؤمن دون مؤمن في جهاد في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، فالأمة الإسلامية تنطلق من موقف واحد في كل شئونها العامة، ولا يحلُّ لفريق منها أن ينحاز دون سائر إخوانه بموقف منفردٍ عندما يتعلق الأمر بشأن عام، ونازلة عامة، بل لابد أن يكون عن رضا وتشاورٍ وتنسيق مع بقية المسلمين، إلا على سواء وعدل بينهم،

فإن فعل ذلك فقد اتخذ بطانة من دون المؤمنين، وخرج بفعله هذا عن جماعة المسلمين.
فمهما كان بين هذه الكيانات الإسلامية من التبايُن في بعض القضايا الاجتهادية، ومسائل السياسة الشرعية، فالأصل أن تجتمع على وحدة موقف في المهمات والأمور العظام، وهذا يعني بقاء الائتلاف الإسلامي الذي تشكَّل أثناء الأزمة، والمحافظة على حيويته وفاعليته، ودعمه وإقداره على ممارسة دوره المنشود في المحافظة على اللُّحمة الدعوية، وتناغم الموقف الإسلامي في السراء والضراء.

والأصل في اعتبار ذلك المصلحة الراجحة، بل الضرورة الـمُلحَّة إليه؛ حتى لا يؤدي تباين المواقف السياسية لفصائل العمل الإسلامي إلى تهارج في الصفوف، وتفتيت للطاقات، وتناقض في القرارات، وإشاعة للوهن والتخاذل، واختراق لهذه الفصائل من قِبَل المتربصين بهذه الأمة من خارجها ليضربوا بعضها ببعض، وفي ذلك غاية البوار والخذلان.

لقد انتصرت بنازير بوتو بباكستان ليس بتمثيلها للأغلبية، ولا لأنها حصدت أصوات الأكثرية، بل لتشرذم أهل الدين أمامها، وتوزع أصواتهم بين مرشحين كثر. لقد صوت الشعب الباكستاني يومها لأهل الدين، وأعطاهم جل أصواته، ولكن أهل الدين وزَّعوا هذه الأصوات بين مرشحين كثر، فكان نصيب بنازير بوتو أكثر من نصيب آحادهم بعد تفرُّقهم، ففازت العلمانية وخسر أهل الدين.

والسعيد يا قومنا مَن وُعظ بغيره لا من وعظ بنفسه.
وعلى هذا؛ فلِكَي يمتهد القبول بالتعددية السياسية في الإطار الإسلامي، والتسليم لكل فصيل منها بترتيب أموره الخاصة، الدعوية والتنظيمية ونحوه؛ فإن كل ما يتعلق بقضايا الشأن العام؛ يجب أن يتعامل معها الجميع باستراتيجية واحدة من خلال ائتلاف إسلامي عام؛ إذ ليس لفصيل من هذه الفصائل أن يستقلَّ بقرار في مستقبل الأمة كلها، أو أن يجرَّه إلى مواجهة شاملة بناءً على تقديراته وحساباته وحده، لاسيما أن آثار هذا العمل لا يستقلُّ وحده بتحمل نتائجها سلبًا أو إيجابًا، ولكنها ستمتد بطبيعة الحال لتشمل فصائل

العمل الإسلامي كافة، ويصطلي الجميع بأوزارها أو ينعم بآثارها.
سابعًا: بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين:

فما كان للتعدُّد الذي وقع في باب المذاهب الفقهية من قبل أن يكون مقبولًا، وأن تُقِرَّ به الأمة على مدار التاريخ؛ لولا ما كان عليه الأئمة الأوائل من التغافر والتراحم، وثناء بعضهم على بعض، واقتداء بعضهم ببعض، ونهيهم أتباعَهم عن التعصب لهم بغير الحق، والتأكيد المستمر على أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأن كل الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إن على المشتغلين بالعمل السياسي من الدعاة وأهل الدين أن يُدركوا أن الأصل في كثيرٍ من آليات هذا العمل المنع، وإنما جاء الترخص فيها على خلاف الأصل تغليبًا للمصلحة العامة، فالأصل في تزكية الأنفس أنها غير مشروعة، ﴿فلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32]، وإنما رخص فيما يلزم منها للتعريف بالمرشح، وبيان أهليته لهذا الموقع عند من يجهله، وليس على سبيل التزكية والاستعلاء والعجب والكبرياء، وإلا كان ذلك من الكبائر.

والأصل في التشوُّف إلى الإمارة المنع، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم  يولي من سأل الإمارة أو تشوف إليها(4)، وما كان الترخص في ذلك إلا إيثارًا لمصلحة الجماعة كما قال نبي الله يوسف لعزيز مصر: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55]، فإذا غُيبت مصلحة الجماعة عاد الأمر إلى أصله من المنع.

فإذا استطاعت الأحزاب الإسلامية أن تُحافظ على سياج الأخوة الإيمانية، وأن تبقى على تناصح وتعاضد، وأن تعقد ولاءها وبراءها على أساس الإسلام لا غير، وأن تستأصل جرثومة التعصب المذموم الذي جرَّ على العمل الإسلامي ما جر من الفتن والتهارج، وأن تؤسس لمنافسة شريفة تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، ومصلحة الأمة على مصلحة الحزب؛ فقد امتهد السبيل إلى القبول بهذا التعدد، على النحو الذي قبلت به الأمة تعدد المذاهب الفقهية من قبل، والله من وراء القصد. والله تعالى أعلى وأعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (6/367) حديث (12859) مرسلًا من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف :. وذكره ابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (7/325) وقال: «هذا الحديث صحيح».

(2) انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (3/34).
(3) فقد أخرج الترمذي في كتاب «اللباس» باب «ما جاء في لبس الفراء» حديث (1726)،

وابن ماجه في كتاب «الأطعمة» باب «أكل الجبن والسمن» حديث (3367) من حديث سلمان رضي الله عنه ، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن السمن والجبن والفراء قال: «الْـحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْـحَرَامُ مَا حَرَّمَ االلهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»، وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (3367).

(4) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الأحكام» باب «من سأل الإمارة وكل إليها» حديث (7147)، ومسلم في كتاب «الأيمان» باب «ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها» حديث (1652)، من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend