التَّحزُّب في الإسلام

ما حكمُ الحزب في الإسلام؟ وهل ما نراه من أحزاب اليوم هي على خطأ؟ وهل التعددية الحزبية هي خروج عن أوامر الدين؟ أرجو أن توضح لنا هذا الأمر توضيحًا شافيًا. بارك الله في علمكم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن المحظورَ في باب التحزُّب هو التعصُّب الحزبي، وعقد الولاء والبراء على ما دون الكتاب والسنة، أو التحزُّب على أمور بِدعيَّة تُخالف الشَّرْع المطهر، أما مجرد التعاقد على جملة من أعمال الخير والتحالف عليها فليس ذلك في ذاته بمحظور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزَّب؛ أي: تصير حزبًا؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا؛ مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق وبالباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرُّق الذي ذمه الله تعالى ورسوله؛ فإن الله ورسوله أمرَا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن الفُرقة والاختلاف، وأمرَا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان»(1).
وقال في موضع آخر: «والذي يوجبه الله على العبد قد يُوجبه ابتداءً؛ كإيجابه الإيمانَ والتوحيد على كلِّ أحد، وقد يُوجبه لأن العبد التزمه وأوجبه على نفسه، ولولا ذلك لم يوجبه؛ كالوفاء بالنذر للمستحبَّات وبما التزمه في العقود المباحة؛ كالبيع والنكاح والطلاق. ونحو ذلك، إذا لم يكن واجبًا، وقد يُوجبه للأمرين؛ كمبايعة الرسول على السمع والطاعة له، وكذلك مبايعة أئمة المسلمين، وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله»(2).
وقال النووي رحمه الله: «قال القاضي: قال الطبري: لا يجوز الحِلْفُ اليوم؛ فإن المذكور في الحديث، والموارثة به وبالمؤاخاة كلُّه منسوخ؛ لقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. وقال الحسن: كان التَّوارث بالحِلْفِ فنُسخ بآية المواريث. قلت: أما ما يتعلق بالإرث فيستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء، وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق- فهذا باقٍ لم ينسخ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: «أَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْـجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً»(3). وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ»(4) فالمراد به حِلف التوراث، والحِلف على ما منع الشرع منه، والله أعلم»(5).وقال ابن الأثير رحمه الله: «أصل الحِلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام»، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام؛ كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «وأيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة»؛ يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحق الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام، وقيل: المحالفة كانت قبل الفتح، وقوله: «لا حِلف في الإسلام» قاله زمن الفتح؛ فكان ناسخًا»(6).

وقد ناقش مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا موضوع المشاركة السياسية من خلال الأحزاب السياسية وغيرها، وانتهى فيه إلى قرار جامع أسوق لك طرفًا منه، ومن خلاله يتضح لك المراد إن شاء الله:
– العمل السياسي لنصرة الدين من خلال الأحزاب السياسية والمجالس البلدية أو النيابية أسلوب من أساليب الاحتساب واستصلاح الأحوال، بغية تحقيق بعض المصالح، ودفع بعض المفاسد، ورفع بعض المظالم، فهو ليس خيرًا محضًا كما يتوهمه المتحمسون، كما أنه ليس شرًّا محضًا كما يظنه المعارضون، ولكنه مما تختلط فيه المصالح والمفاسد، وتزدحم فيه المنافع والمضار، فهو يدور في فلك السياسة الشرعية، ويتقرر حكمه في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، فحيثما ظهرت المصلحة، ولم تعارض بمفسدة راجحة، فلا بأس باشتغال بعض الإسلاميين به، شريطة أن لا تستنفذ فيه الطاقات، وأن لا يحمل على الاستطالة على الآخرين، وأن لا يصرف عن الاشتغال بالأعمال الدعوية أو التعليمية أو التربوية، بل قد يكون الاشتغال به واجبًا في بعض الأحيان إذا تعين وسيلة لتحصيل بعض المصالح الراجحة أو تكميلها، وتعطيل بعض المفاسد أو تقليلها، وقد يكون حرامًا إذا عظمت مفسدته، وربا ضره على نفعه، بل ربما أدى إلى فساد في الاعتقاد، وانسلال من ربقة الإسلام، ولهذا فإن مسائل هذا الباب مما تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، وذلك تبعًا لتغير وجوه المصلحة.
– وهو كغيره من الأعمال لابد لمشروعيته من ضوابط يتعين التزامها، ومحاذير يتعين اجتنابها حتى تمضي أعماله على سنن الرشد.
حول التعددية السياسية:
• التعددية السياسية التي تقوم على تداول السلطة بين مختلف الأحزاب السياسية فكرة غربية نشأت في أوربا في أعقاب تحررها من الطغيان الكنسي والطغيان الملكي، وإطلاق الحريات الفردية، ونقل السيادة من كل من رجال الدين والملوك إلى الأمة، فانتهى بهم المطاف إلى هذه الصياغة التي تقر للأغلبية بالحق في الحكم وللأقلية بالحق في المعارضة إلى حين، ثم يعود الأمر بعد ذلك إلى الأمة لترى رأيها في الفريقين من جديد.
• وهذه الفكرة على هذا النحو لم يعرفها التاريخ الإسلامي، ولم يتضمنها التراث الإسلامي، وإن كان قد أرسى حق الأمة في السلطة العامة تولية ورقابة وعزلًا، كما أرسى حقها في الحسبة على السلطان وعلى من دونه.
التعددية السياسية في منظور المفكرين الوضعيين لها إيجابياتها وسلبياتها:
فمن إيجابياتها: أنها مدارس للشعوب تعمل على توجيه الرأي العام، وتعميق الوعي السياسي لدى الأمة، كما أنها تعتبر همزة الوصل بين الحكام والمحكومين خاصة في الديموقراطية النيابية التي ينتهي دور الأمة فيها عند اختيار نوابها في البرلمان ليقوموا نيابة عنها بمباشرة كافة حقوق السيادة، وليس للأمة عليهم من سلطان إلا عند إعادة انتخابهم مرة أخرى، كما أنها تعد عنصرًا من عناصر استقرار الحياة السياسية؛ بما تتيحه من الوجود العلني للمعارضة، وإتاحة الفرصة أمامها للمشاركة في الحكم إذا حظيت بتأييد الأغلبية بدلًا من لجوء المعارضة إلى أسلوب الجماعات السرية.
ومن سلبياتها: تشرذم الأمة، وتبديد جهود الدولة وتشتت قواها، وآلية الحياة السياسية، وتحويل الأنظمة الديموقراطية إلى أنظمة جوفاء، حيث يتحول الأعضاء في البرلمان بمقتضى الالتزام الحزبي إلى مجرد أبواق تفسر قناعات أحزابهم أو تبررها للآخرين.
اختلف الباحثون في قضية التعددية إلى ثلاثة آراء: الحرمة المطلقة، والجواز المطلق، والجواز إذا كانت داخل الإطار الإسلامي.
أما مأخذ القائلين بالحرمة فيتمثل فيما تفضي إليه التعددية من تشرذم الأمة وتفرق كلمتها، وما تتضمنه من عقد الولاء والبراء على ما دون الكتاب والسنة، وما تتضمنه كذلك من الحرص على الولاية والتنافس في طلبها، وما تقتضيه المعركة الانتخابية من تزكية النفس والطعن في الآخرين، وما تعنيه من الخروج على الجماعة ومنازعة الأئمة، بالإضافة إلى انعدام السوابق التاريخية، وفشل التجارب المعاصرة، وخطأ القياس على تعدد الأحزاب العلمانية.
أما مأخذ القائلين بإطلاق الإباحة فهو الاستشهاد بالفرق الإسلامية القديمة، وباستيعاب الإطار الإسلامي للمجوس والوثنيين وسائر الملل، وقد نوقش بأن الفرق ظاهرة مرضية إن سلم بوجودها فلا يسلم بإتاحة السبل أمامها طواعية لتكون في موضع القيادة، أما أهل الملل الأخرى فإنهم كغيرهم من أهل دار الإسلام ليس لهم الخروج على ثوابت الدولة ومرجعيتها التشريعية، وحقهم في العمل السياسي محكوم بهذه الأصول الكلية التي تجسد هوية الدولة الإسلامية.
أما مأخذ القائلين بالجواز داخل الإطار الإسلامي فيتمثل في أن هذا الأمر من مسائل السياسة الشرعية التي تعتمد الموازنة بينن المصالح والمفاسد، ولا يشترط لمشروعيتها أن تكون على مثال سابق، وقاعدة الذرائع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب دليل مشروعيتها، فالتعددية أمثل طريق إلى تحقيق الشورى والرقابة على السلطة وصيانة الحقوق والحريات العامة، كما أنها الطريق إلى الاستقرار السياسي ومنع حركات التمرد والخروج المسلح، بالإضافة إلى بشاعة البديل وهو الاستبداد بالسلطة وما ترتب على ذلك عبر التاريخ من الإغراء بالقهر والتسلط، فضلًا عن أن الأدلة التي ساقها المعارضون موضع نظر، وأن ما ذكروه من مفاسد التعددية، منها ما يمكن تجنبه بالكلية، ومنها ما يمكن تقليله بحيث يبدوا مرجوحًا إذا ما قورن بما في التعددية من المصالح الراجحة، كما أن التعددية لا تعني بالضرورة التنافس على موقع الإمامة بل قد يكتفى فيها بالتنافس على موقع الوزارة (وزارة التفويض)، والذي يظهر أن هذا القول هو أولى الأقوال بالصواب في هذه القضية.
حول التحالفات السياسية:
– أصل التعاون على البر والتقوى من الأصول الثابتة في الشريعة، على أن لا تقابل المصالح المترتبة عليه بمفاسد راجحة.
– من المفاسد المحتملة في هذه التحالفات: إسباغ قدر من الشرعية على بعض الأحزاب العلمانية، أو التزام المتحالفين بقاسم مشترك من المواقف السياسية التي قد تتعارض مع ثوابت الشريعة، فإذا خلت من شيء من ذلك، وتضمنت مصلحة ظاهرة ولم تعارض بمفسدة راجحة فلا حرج.
– إذا التبس الأمر، واختلطت المصالح بالمفاسد، أحيل الأمر إلى أهل النظر من أهل العلم وأهل الخبرة لإجراء الموازنة بين ما يتوقع من المصالح أو المفاسد لتحقيق خير الخيرين ودفع شرِّ الشرين، ويكون قرارهم في هذا المجال من جنس الأمور الاجتهادية التي لا يعقد عليها ولاء ولا براء ولا يثرب فيها على المخالف.
– وفي الجملة فإن هذا الأمر من مسائل السياسة الشرعية التي تتقرر في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتختلف فيها الفتوى باختلاف الزمان والمكان والأحوال. والله تعالى أعلى وأعلم.

_______________________________

(1) «مجموع الفتاوى» (11/92).

(2) «مجموع الفتاوى» (29/345).

(3) أخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحابة رضي الله عنهم» حديث (2530) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.

(4) التخريج السابق.

(5) «شرح النووي على صحيح مسلم» (16/81-82).

(6) «النهاية في غريب الأثر» (1/424).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend