فضيلة الشيخ، حفظه الله وبارك في علمه وعمره. عملًا بقولِ الله ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، ونُصْحِ نبينا القائل: «مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ»(1). باسم مجموعةٍ من رواد مسجد «المحسنين» في مدينة آوستر هاوت بهولندا، نتقدم إلى فضيلتكم بمشكلة نريد لها حلولًا شرعية عاجلة:
توصيف الحالة: نحن جماعة من المسلمين المغاربة في هولندا، ابتُلينا بالاغتراب في ديار الغَرْب منذ مدةٍ طويلة، في أواخر الثمانينيات كان عددُ المساهمين في الأداء السنوي للمسجد لا يتعدى بضعة وثلاثين نفرًا، غالبهم مهاجرون من العمال الأميين, ليس لهم نظام ولا كفاءات في التنظيم وتسيير المؤسسات، وكانت ولا زالت غالب اجتماعاتهم فوضى وصياحًا وخصومات من أجل حظوظ النفس؛ إذ لا يكتبون تقاريرَ لاجتماعاتهم ولا يعرفون آدابًا للحديث, ظلُّوا على هذا النحو من الفوضى والارتجالية وإلى وقتنا الحاضر ليست لديهم حتى أية رؤية مستقبلية.
أسباب المشكلة: أهمُّ أسباب ذلك عدم وجود كفاءات لتسيير لجنة المسجد؛ إذ إن اختيار الأعضاء يتم بشكل عفوي وارتجالي يحضره القليل من الناس، وكانت أهم شروطهم في الماضي لاختيار أعضاء اللجنة أن يكون من يرأسها على الأقل لا يتلعثم في التحدث بلغة أهل البلد الهولندية.
ومضت ثلاثة عقود وبعض أعضاء اللجنة المُسيِّرين لا يتغيرون, منهم من له أكثر من خمس وعشرين سنة، وبعضهم تجاوز ثلاث عشرة سنة، كأنه حكمٌ وراثي؛ إذ تنصُّ بعض الأنظمة الأساسية لعقد المسجد أن العضوية في اللجنة تتم بالتعيين إلى أجل غير مسمى، وهذا يُعطِّل كثيرًا من المصالح العامة للمسلمين؛ لأنه تتعاقب أجيالٌ أكثر نضجًا ووعيًا بالمسئوليات, بينما تبقى الوجوه القديمة مكرسة للاستبداد وحجر عثرة في طريق المشاريع والرؤى الإصلاحية.
لما قام بعض الشباب وطلبة العلم من الجيل الثاني باقتراح جديد لاختيار أعضاء لجنة المسجد، بحيث يجب أن يختار فقط أهل الكفاءات وأصحاب الخبرات والأمانة عن طريق إجراء انتخاب منظم يشارك فيه جميع المساهمين في أداء واجبهم السنوي، وعددهم الآن يقارب ثلاثمائة, اعترض بعض الشيوخ من الجيل الأول على ذلك قائلًا: ما سمعنا بهذا في الأولين.
اقتراحات ورؤى لطريقة الاختيار وإجراء الانتخاب: اقترح بعض الإخوة ألا يفتح المجال لكل من هبَّ ودب للترشح لعضوية اللجنة؛ إذ يجب أن يتقدم المرشحون إلى نخبة تحضيرية محايدة مستقلة من أصحاب الخبرات في الإدارة وذوي الاختصاص، ووضع شروط وضوابط لقبول الترشح، علمًا أنه يوجد في الجالية الإسلامية بالمؤسسة المذكورة أفرادٌ وإن كانوا قلة ممن حصلوا على شهادات عليا ومؤهلات في الإدارة والتسيير. لما استشرت أمراض العصبية القبلية والاستبداد في بعض أفراد اللجنة أدى ذلك إلى مفاسد كثيرة، أبرزها بروز أنصاف الأميين المستبدين في إدارة لجنة المسجد، وأبرز خلل في نظر الكثير أن اللجنة الحالية لا تُمثِّل الجالية الإسلامية حق التمثيل؛ حيث إنه توجد في المسجد عدة شرائح بدون تمثيل في اللجنة, أهمها:
1- شريحة قطاع التعليم والساهرين عليه.
2- شريحة آباء التلاميذ.
3- شريحة الشيوخ والمواظبين على الصف الأول.
4- شريحة القائمين على أنشطة الشباب الثقافية والدعوية.
5- شريحة المستقلين.
يرى البعض أنه يلزم أن تقوم كل شريحة بتحمل مسئولياتها بتقديم أفضل أهل الكفاءات لديها ممن سيمثلها في المجلس الإداري بمؤسسة المسجد.
اجتماعات ليست فيها أدنى آداب الاجتماع وضوابطه: تعرَّضَتْ بعض هذه النقاط لإبداء الآراء أثناء تجمع عُقد بشكل فوضوي بدون كتابة تقرير ولا إعداد أجندة لمناقشة الأفكار، انتهى الجدال والخصام ولم يُفضِ إلى شيء كعادتهم، واكتفى أحد الطلبة بالقول: إن الانتخاب حرام, ليس من شريعتنا، لا ديمقراطية في الإسلام.
ذلك بزعمه أن الناس ليسوا في مستوى واحد من الثقافة والوعي؛ إذ قال لهم: إن اللجنة يجب أن يختارها أهل الحل والعقد. فلما وُجِّه بسؤال: من أين لنا بأهل الحل والعقد في هذه البلاد وليس لدينا علماء؟ بل من يحق له أن يختار؟ وكيف نختار لتسيير أمورنا؟ أجاب بأنه يجب أن تبقى أمورنا كما هي، بحجة أنه لا يمكن أن يتفق كل الناس على شخص واحد. غير أن بعضهم لم يقتنع بهذا التعليل، وقالوا بأنه لا دكتاتورية أيضًا في الإسلام؛ إن مثل هذه الفتاوى التي تُحرِّم الانتخابات فقدت مصداقيتها عندنا, وسبب ذلك أنه في التسعينيات كان بعض من ينتسب إلى العلم في هذه البلاد يُفتي الناس أن التجنس بالجنسية الهولندية حرام؛ لأن فيها ولاء للكفار، وبعد بضع سنين سارع هذا المفتي نفسه إلى التجنس بتلك الجنسية التي كان يحرمها، مع أنه لم يتغير شيء في الناس ولا في بلد الإقامة في هولندا. الأسئلة:
1. هل صحيح أنه لا يجوز تنظيم انتخابات أو استفتاء بالضوابط الشرعية، علمًا أننا قرأنا بأن بعض كبار العلماء أمثال الشيخ ابن باز والعثيمين وابن جبرين رحمة الله عليهم أفتوا بجواز المشاركة في الانتخابات لاختيار الأمناء والأكفاء، وقرأنا أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يختار ممثليه بالتصويت والانتخاب؟
2. هل ثبت تاريخيًّا أن عثمان بن عفان تم اختياره من قِبَل لجنة شكَّلها عبد الرحمن بن عوف بعد استفتاء أهل المدينة؟ 3. هل يجوز لنا استفتاء الناس فيمن يمثل مصالحهم؟
4. هل جاء الشرع بتفاصيل طرق الاختيار وآلياته، أي من يختار من؟ وكيف تكون الشورى؛ لأنهم كلهم متفقون على أن اللجنة يجب أن تختارها الجماعة، لكن يختلفون في كيفية الاختيار؟ البعض يقترح أن تغير الأنظمة الأساسية للمسجد في وثيقة جديدة تؤسس على نماذج قوانين تسيير الجمعيات القائمة على نظام الشورى؟
5. هل يجوز أن تثبت في العقد الرسمي والأنظمة الأساسية للمسجد بنود تعيين أفراد اللجنة إلى أجل غير مسمًّى؟ كما هو الحال في الجمهوريات الوراثية في البلاد العربية التي تثور شعوبها الإسلامية اليوم ضد أنظمتها الاستبدادية؟ نرجو قبل منتصف شهر رمضان إن أمكن التكرم بإجابات شافية وافية مدعمة بالأدلة المفصلة في ضوء مقاصد الشريعة والقواعد الفقهية التي قرَّرها علماء الأصول وفقهاء السياسة الشرعية، وذلك حتى تقرأ الفتاوى والإجابات في الجمع الغفير ويستفيد منها أكبر عدد ممكن من الحضور. جزاكم الله خيرًا، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/356) حديث (6627)، والشهاب القضاعي في «مسنده» (2/7) حديث (774)، من حديث أنس بن مالك . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/96) وقال: «رواه الطبراني في الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبد القدوس وكلاهما ضعيف جدًّا».
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يؤلف بين قلوبكم، وأن يجمع على الحق كلمتكم، وأن يجنبكم كيد الشيطان ونفثه ووسوسته. ونُوصيكم في البداية بوصية الله جل وعلا لأصحاب نبيه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1]، وبوصية نبينا صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إِيَّاكُمْ وَفَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّهَا الحَالِقَةُ، أَلَا لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ»(1). ثم نُثني بأن مسائل السياسة الشرعية من المجالات الرحبة التي أحالت الشريعة في كثير منها إلى الخبرة البشرية والتجارب الحياتية، لتحقيق المقاصد الشرعية. والسياسةُ الشرعية في اصطلاح الفقهاء: هي كل ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يأتِ فيه بعينه دليلٌ جزئي خاص، ما دام لم يخالف ما جاء به الوحي المعصوم. والمصالح الكبرى التي جاءت الشريعة لحفظها على العباد وتحصيلها لهم كما هو معلوم تتمثل في: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسل.
وتتضح تجليات السياسة الشرعية في منطقة العفو التشريعي التي أحالت فيها الشريعة إلى الخبرات البشرية لتحقيق المقاصد الشرعية، وهي كما سبق مجال رحب فسيح يعكس المرونة المنضبطة للشريعة، واستيعابها لمختلف الحاجات، وكفالتها لجميع المصالح المشروعة على مدى الزمان كله وعلى مدى المكان كله.
كما تتضح تجلياتها كذلك في بعض ما وردت فيه النصوص، ولكن عندما تزدحم المصالح والمفاسد وتجتمع المنافع والمضار في المناط الواحد، وتمس الحاجة إلى تحرير خير الخيرين لتحصيله، وشر الشرين لتعطيله، وهو مقام صعب ومعترك ضنك، وكثيرًا ما يقع الاشتباه في مثل ذلك، وقد تقارن الأهواءُ الآراءَ، وتختلط النزعات الشخصية بالاجتهادات الفقهية، والمعصوم من عصمه الله عز وجل .
ومما هو جدير بالذكر أن جل مسائل السياسة الشرعية من مواضع الاجتهاد التي تعتمد في الأعم الأغلب على الموازنة بين المصالح والمفاسد، ويتقرر حكمها في ضوء غلبة أحدهما على الآخر، فلا ينبغي أن تكون سببًا في تفرق الكلمة وفساد ذات البين، بل يتحاور الناس فيها بالبينات وبالحجج العلمية والمنطقية، ومن ظهر له رجحان أحد الجانبين لا ينبغي له أن ينكر على من ظهر له رجحان الجانب الآخر، ويعتصم الناس فيها بالشورى وبلزوم الجماعة، وقد تمهد أن الإمام يطاع في موارد الاجتهاد، وأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وأن ما نكره في الطاعة والجماعة خير مما نحب في الفرقة والمعصية.
وبالنسبة لخصوص ما سألتم عنه فإن للشارع مقصودًا في باب الولايات العامة يتمثل في تحكيم الشريعة وإقرار سلطة الجماعة، فالحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع، وجماعة المسلمين هي التي تختار قيادتها وتهيمن عليهم توليةً ورقابةً وعزلًا.
وقد جاءت الشريعة بالشورى وتنزلت باسمها في كتاب الله سورة كاملة، ولكنها أحالت في آلياتها ووسائل تطبيقها إلى الاجتهاد البشري الذي يجتهد في اختيار أنجع الآليات وأقربها لتحقيق مقاصد الشريعة وخير الجماعة، وسوف أخصُّ كلًّا من هذين الأمرين بكلمةٍ للتأكيد عليهما باعتبارهما حجر الأساس في هذه القضية قبل الدخول في تطبيق ذلك على هذه النازلة محل الاستفتاء.
وما ورد من الأدلة وكلام أهل العلم في هذين الأصلين وإن كان قد ورد في مقام الولاية العامة الكلية التي تنشئ عموم النظر على عموم الأمة فإن الولايات الجزئية تأخذ من ذلك بحسبها، وينطبق عليها من ذلك ما يكافئها.
أولًا: السيادة للشرع: فقد تمهد في مُحكمات الشريعة وبدهياتها الأولى أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وأن الإرادة التي تعلو على جميع الإرادات، والسلطة التي تهيمن على جميع السلطات والتي لا تعرف فيما تنظمه أو تقضي فيه سلطة أخرى تساويها أو تساميها، إنما هي إرادة الله عز وجل .
وقد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف أعصارها وأمصارها على أنه لا دين إلا ما أوجبه الله، ولا شرع إلا ما شرعه، فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه(2)، وأن من جادل في هذه البدهية فَرَدَّ على الله أمره بتحليل حرامه أو بتحريم حلاله أو أعطى غيره حق التحليل والتحريم والتشريع المطلق فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه(3). وقد انعقد إجماع الأصوليين على أن الحكم هو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا, وأن العقل ليس بشارع, وأن الإجماع لا ينعقد إلا على نص؛ لأن الأمة لا تملك إنشاء الأحكام ابتداء, وأنه لا قياس مع النص, وأنه لا اعتبار للمصلحة التي تتعارض مع الشرع, وأن كل ما أُحدث على خلاف الدين فهو ردٌّ(4), وأن اتباع أهل العلم إنما يكون بجهة علمهم بالشريعة وقيامهم بحاجاتها وحكمهم بأحكامها, وأن تحكيم الرجال دون التفات إلى كونهم وسائل لمعرفة الحكم الشرعي ضلال وبهتان, وأن الشورى لا تكون إلا في الأمور المباحة وما سكتت عنه الشريعة وتركته عفوًا يجتهد فيه الناس بما يحقق مصالحهم, وأنه إذا وَضَح النص ليس لأحد أن يتقدم عنه أو يتأخر. يقول البخاري: «كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها, فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي, ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة, فقال عمر: كيف نقاتل وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَـهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله»(5).
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين ما جمع رسول الله. ثم تابعه عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة؛ إذ كان عنده حكم رسول الله في الذين فرَّقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه, وقال النبي: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»(6)، وكان القراء أصحاب مشورة عمر، كهولًا كانوا أو شبابًا, وكان واقفًا عند كتاب الله عز وجل »(7).
ثانيًا: السلطة لجماعة المسلمين: فسيادة الشرع في المنهج الإسلامي لا تعني الثيوقراطية التي لفظتها المجتمعات الغربية؛ لأنه لابد من التفريق بين مصدر السلطة السياسية ومصدر النظام القانوني في المنهج الإسلامي، فالسلطة السياسية مصدرها جماعة المسلمين، والنظام القانوني مصدره الشرع، وكم يؤدي الخلط بين الأمرين إلى تشويش وتلبيس. فإذا كانت الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع، فإن السلطة في التولية والرقابة والعزل لجماعة المسلمين، ولها في إطار سيادة الشريعة مطلق الحق في ذلك لا ينازعها فيه إلا ظلوم أو جهول. وقد تجلى هذا المعنى في مقالات الخلفاء الراشدين المهديين، نذكر منها:
• ما قاله أبو بكر رضي الله عنه في خطبة له قبيل وفاته: «إن الله قد ردَّ عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم»(8).
• وما قاله عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله: «بلغني أن قائلًا منكم يقول: والله لو مات عمرُ لبايعتُ فلانًا, فلا يَفْرَقَ امرؤٌ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت, ألا وأنها قد كانت كذلك ولكن وقى اللهُ شرَّها, وليس فيكم من تُقطَع الأعناق إليه مثل أبي بكر, من بايع رجلًا من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يُبَايِعُ هو ولا الذي بايعه؛ تَغِرَّةَ أن يُقتَلا»(9).
وما قاله عليٌّ رضي الله عنه عندما اجتمع إليه الناس في بيته وأرادوا أن يعقدوا له البيعة فقال: «إن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا في المسجد. فحضر الناس إلى المسجد ثم جاء عليٌّ فصعد المنبر وقال: أيها الناس، عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم ليس لأحد من حق إلا من أمَّرتم, وقد افترقنا بالأمس على أمرٍ، وكنت كارهًا لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم, ألا وإن ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم معي, وليس لي أن آخذ درهمًا دونكم, فإن شئت قعدت لكم وإلا فلا آخذ على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس: اللهم اشهد. فبايعه طلحة والزبير، وقال لهما: إن أحببتما أن تبايعاني، وإن أحببتما بايعتكما؟ فقالا: بل نبايعك. فبايعاه ثم بايعه الناس»(10).
وفي رواية أخرى: أن الزبير قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس… إن الله قد رضي لكم الشورى فأذهب بها الهوى, وقد تشاورنا فرضينا عليًّا فبايِعوه, وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه: إن أَمْره إلى الله. فقام الناس فأتوا عليًّا في داره فقالوا: نبايعك. فمُدَّ يدك, لابد من أميرٍ فأنت أحق بها. فقال: ليس ذلك إليكم, إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر, فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة»(11).
• ما روي عن عمر بن عبد العزيز بعد أن أُخذت له البيعة بناء على عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك إليه أنه قام فصعد على المنبر ثم قال: «أيها الناس، إني لست بمبتدع ولكني متبع, وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم فأنا وَالِيكُم، وإن هم أبَوا فلست لكم بوالٍ». ثم نزل(12).
هذا وقد استقرَّ في فقه السياسة الشرعية أن الإمامة تنعقد بأحد وجهين: الاختيار من أهل الحلِّ والعقد، أو العهد من الإمام السابق. وإذا كان العهد عند المحققين لا يعدو أن يكون ترشيحًا يُفوِّض الأمر في إمضائه أو إلغائه إلى الأمة فقد آل أمر الإمامة إلى طريق واحد لا تنعقد انعقادًا شرعيًّا بغيره، وهو الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد في جماعة المسلمين، فتمهَّد من ذلك أن السلطة في ذلك إلى جماعة المسلمين لا غير. وأهل الحل والعقد: هم الذين يرجع الناس إليهم في الحاجات والمصالح العامة من وجوه الناس وقياداتهم الدينية والمجتمعية، من كل متبوع مطاع في جماعة المسلمين. وينقل محمد رشيد رضا في «المنار» عن محمد عبده رحمهما الله أنهم هم الأمراء والعلماء والحكام ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة.
أما كيفية تحديد هؤلاء فهو مما تركه الإسلام لاجتهاد كل عصر، لكونه مما تختلف فيه وجوه المصلحة باختلاف العصور، ويمكن معرفة هؤلاء كما قال الشيخ محمد أبو زهرة: «بالرجوع إلى كل إقليم من أقاليم الدولة, فيجب على أهالي كل إقليم أن يختاروا فضلاءهم، وهؤلاء الفضلاء هم الذين يتولون عقد الإمامة، وتنعقد الإمامة لمن يتبعه الأكثرية المطلقة من هؤلاء المختارين». ويُشترط في أهل الحل والعقد ما يلي:
1- العدالة، وذلك لكي يُوثَق باختيارهم وتنصيبهم، وأدنى ذلك أن يكونوا من رُوَّاد المساجد، وممن يدعمون أنشطتها ويكثرون سواد عمارها، وإذا كان الفسق يقدح في سائر الولايات، ويقدح في الشهادة والقضاء, فأحرى بأن يقدح في منصب الترشيح والاختيار للقيادة.
2- العلم، ولا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد؛ لأنهم يُفوَّضون في اختيار قيادة للجماعة، فيكفي علمهم بالصفات المَرْعِيَّة فيمن يُناط به أمر الرعية عامة، أو الجالية خاصة، وبصرهم بالآليات والسياسات ومن يصلح لها ليكون الاختيار على بصيرة.
3- الرأي والحكمة وحسن التدبير، المؤديان إلى اختيار من هو للقيادة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف. هذا, ومما ينبغي الاعتناء به في هذا المقام أن تمثل كافة الولايات في جماعة أهل الحل والعقد ليعم الرضا بالإمام، ويسلس له قيادة الأنام، وقد ذكر الماوردي هذا الرأي فيما ذكر من آراء فقال: «قالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضا به عامًّا، والتسليم لإمامته إجماعًا»(13).
وقد أشار إلى هذا الأمر من المعاصرين كما سبق الشيخ أبو زهرة، حيث ذكر أنه يمكن معرفة أهل الحل والعقد بالرجوع إلى كل إقليم من أقاليم الدولة، فيجب على أهل كل إقليم أن يختاروا فضلاءهم, وهؤلاء الفضلاء هم الذين يتولون عقد الإمامة, وتنعقد الإمامة لمن بايعته الأكثرية المطلقة من هؤلاء الفضلاء المختارين. أما كيف تمارس الجماعة سلطانها في التولية والعزل؟ وما آليات ذلك؟ لقد جاءت الشريعة في هذا بمعالمَ عامةٍ هادية، وتركت للعقل البشري المسلم أن يطوف في آفاق التجارب البشرية والخبرات الميدانية، ويصطفي من الآليات ما يكون أقرب إلى تحقيق العدل الذي به قامت السموات والأرض. وفي ضوء ما سبق فلا بأس في كون الانتخاب في ظل الضوابط السابقة من الآليات التي تعتمدها الجماعة لإفراز قيادة ترتضيها. وللمجامع الفقهية المعاصرة قرارات مجمعية حول المشاركة السياسية أفتت فيها بجواز هذه المشاركة عندما تربو مصالحها على مفاسدها، واعتماد المشاركة يعني اعتماد الانتخاب؛ لأنه أبرز آلياتها، وهاكَ قبسًا منها:
• أولًا: قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي حول المشاركة السياسية:
1. مشاركة المسلم في الانتخابات مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية من مسائل السياسة الشرعية التي يتقرر الحكم فيها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، والفتوى فيها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
2. يجوز للمسلم الذي يتمتع بحقوق المواطنة في بلد غير مسلم المشاركة في الانتخابات النيابية ونحوها لغلبة ما تعود به مشاركته من المصالح الراجحة، مثل تقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام، والدفاع عن قضايا المسلمين في بلده، وتحصيل مكتسبات الأقليات الدينية والدنيوية، وتعزيز دورهم في مواقع التأثير، والتعاون مع أهل الاعتدال والإنصاف لتحقيق التعاون القائم على الحق والعدل، وذلك وفق الضوابط الآتية:
أولًا: أن يقصد المشارك من المسلمين بمشاركته الإسهام في تحصيل مصالح المسلمين، ودرء المفاسد والأضرار عنهم.
ثانيًا: أن يغلب على ظن المشارك من المسلمين أن مشاركته تُفضي إلى آثار إيجابية، وتعود بالفائدة على المسلمين في هذه البلاد؛ من تعزيز مركزهم، وإيصال مطالبهم إلى أصحاب القرار، ومديري دَفَّة الحكم، والحفاظ على مصالحهم الدينية والدنيوية.
ثالثًا: ألا يترتب على مشاركة المسلم في هذه الانتخابات ما يؤدي إلى تفريطه في دينه.
• ثانيًا: قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا حول هذه المشاركة: العمل السياسي لنصرة الدين من خلال الأحزاب السياسية والمجالس البلدية أو النيابية أسلوب من أساليب الاحتساب واستصلاح الأحوال، بغية تحقيق بعض المصالح، ودفع بعض المفاسد، ورفع بعض المظالم، فهو ليس خيرًا محضًا كما يتوهمه المتحمسون، كما أنه ليس شرًّا محضًا كما يظنه المعارضون، ولكنه مما تختلط فيه المصالح والمفاسد، وتزدحم فيه المنافع والمضارُّ، فهو يدور في فلك السياسة الشرعية، ويتقرر حكمه في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، فحيثما ظهرت المصلحة، ولم تُعارَض بمفسدة راجحة، فلا بأس باشتغال بعض الإسلاميين به، شريطة ألا تستنفد فيه الطاقات، وألا يحمل على الاستطالة على الآخرين، وألا يصرف عن الاشتغال بالأعمال الدعوية أو التعليمية أو التربوية، بل قد يكون الاشتغال به واجبًا في بعض الأحيان إذا تعيَّن وسيلةً لتحصيل بعض المصالح الراجحة أو تكميلها، وتعطيل بعض المفاسد أو تقليلها، وقد يكون حرامًا إذا عظمت مفسدته، ورَبَا ضَرُّه على نفعه، بل ربما أدى إلى فساد في الاعتقاد، وانسلال من ربقة الإسلام؛ ولهذا فإن مسائل هذا الباب مما تتغير فيه الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، وذلك تبعًا لتغير وجوه المصلحة. وقد فصل القرار القول في ضوابط هذه المشاركة تفصيلًا لا أحسبه قد سُبِقَ إليه، ويمكن أن يراجع نص القرار على موقع المجمع. • ثالثًا: قرار المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث حول المشاركة السياسية: أولًا: هدف المشاركة السياسية هو صيانة الحقوق والحريات والدفاع عن القيم الخُلُقية والرُّوحية، وعن وجود المسلمين في ذلك البلد ومصالحهم المشروعة.
ثانيًا: الأصل مشروعية المشاركة السياسية للمسلمين في أوربا، وهي تتردَّد بين الإباحة والندب والوجوب، وهذا مما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، كما أنه يعتبر من مقتضيات المواطنة.
ثالثًا: المشاركة السياسية تشمل الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني والالتحاق بالأحزاب، وتكوين التوجهات، والمشاركة في الانتخابات تصويتًا وترشيحًا.
رابعًا: من أهم ضوابط المشاركة السياسية الالتزام بالأخلاق الإسلامية، كالصدق والعدل والوفاء والأمانة، واحترام التعددية والرأي المخالف، والتنافس النزيه مع المعارضين، وتجنب العنف.
خامسًا: من أهم ضوابط المشاركة السياسية: التصويت في الانتخابات، بشرط الالتزام بالقواعد الشرعية والأخلاقية والقانونية، ومنها وضوح المقاصد في خدمة مصالح المجتمع، والبعد عن التزوير أو التشهير، والتجرد عن الأهواء الشخصية.
سادسًا: جواز بذل المال للحملة الانتخابية، حتى لو كان المرشح غير مسلم، ما دام أقدر على تحقيق الصالح العام. لعلنا بهذا العرض نكون قد أجبنا على أسئلتكم بارك الله فيكم، وبقي منها سؤال يتعلق بتقييد المدة التي يختار لها الولاة أو الأمناء وأهل الحل والعقد الذين يختارون هؤلاء الولاة، لعلنا نجيب على هذا السؤال أولًا فيما يتعلق بعقد الإمامة العامة؛ لأنه العقد المنصوص في كتب الفقه على استدامته ما لم يتغير حال الأئمة بفسق في دينه أو نقص في بدنه يمنعه من مباشرة مهمات الإمامة.
• هل يجوز توقيت عقد الإمامة؟ الأصل في عقد الإمامة الذي عرَّفه الفقهاء وتعاملت به الأمة على مدار القرون هو الدوام، وأن الإمام لا يُخرَج عن الإمامة إلا لسببٍ يقتضيه من نقصٍ في بدنه أو جَرْحٍ في عدالته، على تفصيل طويل في ذلك، ولكن السؤال الذي يَرِدُ في هذا المقام: ما مدى مشروعية توقيت عقد الإمامة من البداية بأن يبايع الإمام مدة معينة تنحلُّ بعدها عُقْدة إمامته، ويعود الأمر مرة أخرى إلى الأمة لتُجدِّد اختياره أو لتعدل عنه إلى غيره؟ إذا ترجَّح هذا الأسلوب وسيلةً لكبح جماح السلطة، وتمكين الأمة من الهيمنة على حكامها تولية ورقابة وعزلًا، ووقايتها من حركات الخروج المسلح التي جرَّت عليها في تاريخها ما جرَّت من الفتن والمفاسد. لقد تمهد في كليات السياسة الشرعية أن الإمامة عقد من العقود، تصح بما تصح به العقود، وتبطل بما تبطل به العقود، وأن طرفَا هذا العقد: الإمام، والأمة. فعلى الإمام واجب حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وعلى الأمة واجب الطاعة والنصرة. وإذا كان ذلك كذلك فما الذي يمنع إذا رقَّ الدين وصادر الأئمةُ حقَّ الأمة في الهيمنة والرقابة، وتحوَّلت كراسي الحكم من تحتهم إلى مطايا للاستغلال والاستبداد- أن يشترطوا على الأئمة من البداية أن يكون اختيارهم مؤقتًا لمدة معينة، ثم يعود الأمر بعد ذلك إلى أهله إلى جماعة المسلمين لتستأنف اختيارهم وتُجدِّد ولايتهم، أو تعدل عنهم إلى غيرهم في ضوء ما تُسفر عنه سيرتهم في الحكم خلال هذه المدة المؤقتة. إن مبدأ تقييد البيعة ليس بالغريب على قواعد السياسة الشرعية: لقد بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعوا منه نساءهم وأبناءهم داخل المدينة، فلما كانت غزوة بدر واقتضى الأمر القتال خارج المدينة استشارهم رسـول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وهو المعصوم المطاع صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا أمر لم تعقد عليه البيعة من البداية.
يقول ابن القيم: «ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيًا فتكلموا أيضًا فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثًا ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، كأنك تُعرِّض بنا. وكان إنما يعنيهم لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشي أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم»(14). ولقد رُوي أن عبد الرحمن بن عوف عندما عُوتب في تقديم عثمان على عليٍّ في البيعة، أجاب بأنه عَرَض الأمرَ على عليٍّ واشترط عليه أن يلتزم باجتهاد الشيخين من قَبْله فقال: أجتهد رأيي ولا آلو. وعَرَض ذلك على عثمان فقَبِلَ فعقد البيعة له. فكأنه أراد أن تكون سوابق الشيخين قيدًا جديدًا على سياسة الخليفة في الحكم، وهذا إن صح يفتح رَوْزَنةً للتفكير فيما نحن بصدده. وقد تمهَّد في قواعد السياسة الشرعية كذلك أن الأمة هي مُستقَرُّ السلطة ومستودعها، فإذا كانت السيادة حقًّا خالصًا لله جل وعلا فإن السلطة في إطار سيادة الشريعة حقٌّ خالص لجماعة المسلمين، فللأمة في هذا الإطار حقُّ الهيمنة على حكامها توليةً ورقابة وعزلًا، لا ينازعها في ذلك إلا ظلوم. وإذا كان الحقُّ في السلطة ابتداء هو لجماعة المسلمين، وهي التي تُنيب الأئمة في ممارسة هذه السلطة تحقيقًا لمصالح المسلمين العامة، فإن لها بمقتضى القواعد العامة للشريعة أن تبذل هذه السلطة مطلقةً أو مقيدة، حَسَب ما يترجَّح لديها من المصلحة في ذلك الحقِّ، فلها أن تُقيِّدها من حيث الموضوع؛ فلا تجعل للأئمة مثلًا الحقَّ في الاستقلال بالقرارات المصيرية، التي تُشكِّل مصائر الأمم ومستقبل الشعوب دون الرجوع إلى جماعة المسلمين ممثلة في أهل الشورى أو أهل الاختيار، لاسيما وقد تعقدت عملية صناعة القرار في واقعنا المعاصر، فلم تعد نبوغًا فرديًّا أو تفوقًا شخصيًّا، بل أصبحت عملية بالغة التعقيد والتشابك يجب أن تتوافر عليها مؤسسات على أرقى مستوًى من الخبرة والتخصص. ولها أن تقيدها من حيث الزمان: فتعقد لهم البيعة إلى أمدٍ محدود وأجل معلوم، ليئول إليها الأمر بعد ذلك: فإما أن تجدد اختيارهم إن استقاموا لها، وإما أن تعدل عنهم إلى غيرهم. ولا يرد على ذلك القول بأن تقييد البيعة على هذا النحو أمر لا عهد للسلف الصالح به فيكون بدعة من البدع؛ لأن هذا أدخل في باب السياسة الشرعية، وهي كل فِعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يأتِ فيه دليل خاص ولا جرى عليه عملُ مَن سبق من أهل العلم، لكنه ملائم لجنس تصرفات الشارع ومندرج تحت مقاصد الشريعة العامة. بل إذا تعيَّن ذلك وسيلةً لتحقيق مصلحة راجحة أو دَفْع مفسدة راجحة تمهَّد القول بمشروعيته بل وبوجوبه، إلا أن تقدير المصالح والمفاسد من مسائل الاجتهاد التي يتفاوت في تقديرها أهل الفتوى.
• توقيت ما وراء ذلك من الولايات الجزئية: وإذا صحَّ تقييد عقد البيعة التي تُعقَد للخلفاء والأئمة ورؤساء الدول صحَّ تقييدها فيما سوى ذلك من سائر الولايات الجزئية، فإن هذه الولايات هي بدورها من جملة العقود، فيصح تقييدها بما تُقيَّد به سائر العقود، وتلك من مسائل السياسة الشرعية التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، فللأمة عامة وللجالية خاصة باعتبارها مستقر السلطة ومستودعها أن تشترط فيها لنفسها ما يحقق مصالحها ويمنع من الاستطالة عليها. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/444) حديث (27548)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في إصلاح ذات البين» حديث (4919)، والترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في صفة أواني الحوض» حديث (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه . وقال الترمذي: «هذا حديث صحيح».
(2) فقد أخرج الترمذي في كتاب «اللباس» باب «ما جاء في لبس الفراء» حديث (1726)، وابن ماجه في كتاب «الأطعمة» باب «أكل الجبن والسمن» حديث (3367) من حديث سلمان رضي الله عنه ، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء قال: «الْـحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْـحَرَامُ مَا حَرَّمَ االلهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِـمَّا عَفَا عَنْهُ»، وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (3367).
(3) فقد أخرج أحمد في «مسنده» (4/130) حديث (17209)، والترمذي في كتاب «الأمثال» باب «ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة» حديث (2863)، والحاكم في «مستدركه» (1/582) حديث (1534). من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ فَارَقَ الْـجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ». وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» حديث (3694).
(4) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الصلح» باب «إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود» حديث (2697)، ومسلم في كتاب «الأقضية» باب «نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور» حديث (1718) من حديث عائشة ل، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ».
(5) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) حديث (25)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» حديث (20) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(6) أخرجه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» باب «حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم» حديث (6922) من حديث ابن عباس.
(7) باب عند البخاري في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة».
(8) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (44/248).
(9) أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت» حديث (6830).
(10) انظر: «الكامل في التاريخ» لأبي الحسن الشيباني (3/84).
(11) أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في «حلية الأولياء» (5/296).
(12) «الأحكام السلطانية» للماوردي ص7.
(13) «زاد المعاد» (3/173).