الامتناع عن دفع الفواتير بحجة العصيان المدني(1)

ما حكم الدين فيمن لا يدفع فواتير الكهرباء والغاز والمياه بحُجَّة العصيان المدني في مصر الآن؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن العصيان المدني هو أسلوب من أساليب المقاومة السلمية لطُغيانٍ أو استبدادٍ.
ويتمثَّل في رفض الخضوع للقوانين غير العادلة من أجلِ حمل الحكومة على القيام بتغييرٍ، ويكون عادةً من قِبَل جماعات كبيرة، كوسيلة ناجعةٍ لتغيير هذه القوانين عندما تعتبرها مجحفةً، وقد استخدم في حركات مقاومة سلمية عديدة موثَّقة؛ في الهند: مثل حملات غاندي من أجل العدالة الاجتماعية، وحملاته من أجل استقلال الهند عن الإمبراطورية البريطانية. وفي جنوب أفريقيا في مقاومة الفصل العنصري، وفي حركة الحقوق المدنية الأمريكية.
و بالرغم من اشتراك العصيان المدني مع الإضراب؛ وخصوصًا الإضراب العام، في كونهما وسيلتين تستخدمهما الجماهيرُ للمطالبة برفع ظلمٍ أصابها، إلا أن الإضراب متعلِّق بحقوق العُمَّال في مواجهة صاحب العمل، والذي يمكن أن يكون هو الحكومة.
وقد تمثَّل أحد أكبر تطبيقات العصيان المدني وأوسعها نطاقًا في لجوء المصريين إليه ضد الاحتلال البريطاني في ثورة 1919 السلمية.
ويتميز العصيان المدني بسلميته المطلقة، وقد وضع له غاندي جملة من القواعد تدور جميعًا في فلك التأكيد على السلمية، وعدم الاستجابة إلى الاستفزاز، ولو بالملاسنات الكلامية.
ومن قواعده التي قررها غاندي على سبيل المثال:
• التحلي بضبط النفس، وعدم الاستجابة لدواعي الغضب والاستفزاز، وما يعنيه ذلك من تحمُّل غضب الخصم، وهجومه عليه، والتزامه بعدم الردِّ عليه مطلقًا.
• الخضوع الطوعي للاعتقال إذا لجأت السلطةُ إلى ذلك، وعدم مقاومة مصادرة متاعِه، إلا إذا كان المتاعُ أمانةً مودَعة عنده فإنه سيرفض تسليمها، حتى لو فقد حياته دون ذلك.
• عدم إهانة الخصم مطلقًا، أو الرد عليه، ولو بالسبِّ والشتم والملاسنات الكلامية.
• الامتناع من تحيَّة العلم، مع تجنُّب إهانته أو إهانة الموظف العام، وإن أهان أحدٌ خلال النضال موظفًا أو اعتدى عليه فإن المقاوم المدني سيحمي الموظف من الإهانة أو الاعتداء حتى لو دفع حياته ثمنًا.
هذا ويتَّسم فعل العصيان المدني بستِّ خصائص:
1- الخرقُ الواعي والمتعمَّد للقانون.
2- العلانية: فهو عمل عامٌّ يتمُّ في العلن، ويُترجم بسلوك شعبي، وهو ما يميزه عن العصيان الإجرامي؛ حيث يزدهر الأخير في الخفاء، وتهدف الدعاية في حالة العصيان المدني إلى استبعادِ كلِّ شكوكٍ حول أخلاقيات الفعل، فضلًا عن إضفاء قيمة رمزية عليه، وإلى استقطاب أكبرِ عدد مُمكن من الجمهور حتى يكونَ له الصدى الأكبر في تغيير شعور أو قناعة لدى الرأي العام.
وقد يذهب بعضُ المشاركين إلى أبعدَ من ذلك؛ فباعتبارهم ملتزمين بنهج غاندي، فهم يجدون في الدعاية مطلبًا ضروريًّا لإبلاغ السلطات المعنيَّة مسبقًا بحركات العصيان المدني المستقبلية.
3- الجماعيَّة، فالعصيان المدني بطبيعته موقفٌ جماعي، وحركة ذات رسالة جماعيَّة. فهو الفعلُ الصادر عن مجموعة يعرِّفُون أنفسهم بالأقلية الفاعلة، ويترجم بتضافر جهودهم جميعًا.
4- السلميَّة، فالعصيان المدني سلميٌّ بطبعه، ويهدف إلى الدعوة إلى إطلاق حوارات عامة. ولبلوغِ هذا الهدف فهو يُخاطب الضميرَ الغافل للأغلبيَّة أكثرَ مما يدعو إلى أعمال عنفٍ. هذه إحدى السِّمات التي تميزه عن الثورة التي من الممكن أن تدعو إلى استخدام القوة لبلوغ غاياتها.
5- استهداف تعديل بعض القواعد القانونية الجائرة.
6- المرجعية الدينية أو الحقوقية، فالعصيانُ المدنيُّ يتميَّز بالتزامِه بجُملة من المبادئ العليا التي تعلو على القضية موضعِ النزاع. وذلك أهم ما يميز العصيان المدني، ويُضفي عليه نوعًا من الشرعية.
وربما كانت هذه المبادئ العليا مبادئَ دينية، لذا كان دائمًا بعضُ رجال الدين يشاركون أو يتزعمون حركات للعصيان المدني؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، نجد الأخوين «بريجان» وهما قسيسان اللَّذين تم القبض عليهما عشرات المرات لاشتراكهما في أعمال للعصيان المدني أثناء احتجاجات مناهضة للحرب.
وقد تكون هذه المبادئ العليا المشار إليها مبادئ دستورية أو فوق دستورية، ولذلك كانت مرجعيَّة بعض الكُتَّاب والسينمائيين الفرنسيين هي الحريات العامة واحترام الإنسان- في أعمالهم التي كانت تنادي بالعصيان المدني عام 1997 ضد مشروع قانون جون لويس ديبري، والذي كان يفرض على أي إنسان يستضيف أجنبيًّا في زيارة خاصة لفرنسا إخطارَ عمدة المدينة بموعد مغادرته؛ حتى أُلغِيَ هذا القانون.
بعد هذه اللمحة عن العصيان المدني، يتبين أنه أسلوب من المقاومة السلمية في مواجهة الطغاة والمستبدين، تكتنفه مصالحُ ومفاسد، وتزدحم فيه منافع ومضارُّ، فهو يدور في فلك السياسة الشرعية، التي تقوم على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتسعى إلى تحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرَّين، وتختلف فيها الفتوى باختلاف الزمان والمكان والأحوال.
وعند اللجوء إليه من قبل بعض أهل الدين لابد من أسلَمته، وتأطيره بحِزمة من المبادئ الخلقية الشرعية التي تُقلِّل مفاسده، وتنأى به عن الانتهازية والمنافع الشخصية، ونحوه.
ولهذا فإن التَّوقُّف عن دفع ثمن بعض الخدمات التي يحصل عليها المواطن، والتي تقدمها مرافق عامة مملوكة لجماعة المسلمين، والتخوض في مخصصاتها المالية على هذا النحو يتضمن شبهةَ السَّرِقة من الجماعة ومالها العام، وتشوبه شبهة الغلول والانتهازية؛ وهو الأمر الذي لا يليقُ بالمسلم، ويغرر بمصداقيَّة العمل العام، ويُضفي عليه مسحة الانتهازية وتوظيفِ المواقف السياسية لتحقيق مآربَ شخصيةٍ. فلا يشرع.
ولو قيل: تبقى هذه الالتزامات دَيْنًا في عُنُق أصحابها، يبذل إلى السلطة الشرعية، بعد زوال السلطة الغاصبة- لكان لهذا القول حَظًّا من النظر، أما إطلاقُ القول على هذا النحو فيكتنفه ما سبق من المفاسد.
هذا. فضلًا عن أن العصيانَ المدنيَّ موقف جماعي وليس سعيًا فرديًّا، وهو لم يطبق بعد على هذا النحو العام في المشهد المصري، ولكل حادث حديث. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend