الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهدم القبور ومهاجمة أوكار الفساد

هل يُعَدُّ ما يقوم به بعض السلفيين أو ينسب إليهم من هدمِ القبور التي تُشَدُّ إليها الرحال وتنتشر حولها البدع والشركيات؟ أو مهاجمة أوكار الفساد كالأندية الليلية ونحوها؟ أو ممارسة الاحتساب على منكَرات الطُّرق والأسواق بمنع تجول النساء العاريات والانتشار في المجامع التي يشترك فيها الرجال والنساء للتحقق من عدم وجود ما يُوجب الريبة ونحوها؟ ولو أدى ذلك إلى تعطيل العمل مؤقتًا لمدة تطول أو تقصر في بعض هذه المرافق، إعزازًا للدين وانتصارًا للشريعة. هل يُعَدُّ ذلك  مباشرةً مشروعةً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل القعود عن ذلك يُعدُّ تفريطًا في إقامة هذه الفريضة؟ أفتونا مأجورين.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقبلَ الدخول في التعقيب على هذا السؤال، أدعو السائل الكريم إلى التحري فيما تتناقله وسائلُ الإعلام في هذه الأيام من أخبار وشائعات يتولى كبرَ تطييرها كذبةٌ محترفون، ماتت ضمائر بعضهم ووطنيته، ولا يردعهم رادعٌ من دين أو خلق، وقد يكون في قلوب بعضهم من الحقد على التديُّن ما لا يوجد معشاره لدى بعض أتباع الملل الأخرى. ولا يعنى هذا التعميمَ، ففي كلِّ فئة البرُّ والفاجرُ، والصالح والطالح، وإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرًا، ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا.
وبعـــد: فإن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات الشرعية، فهو القطبُ الأعظم في الدين، والمهمُّ الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين، بإقامته على وجهه- كما أمر الله- استحقت هذه الأمة أن تكون خير أمة أُخرجت للناس، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]. وبإضاعته استحقَّ بنو إسرائيل اللعنةُ على لسان الأنبياء، قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78، 79].
ولعظم شأن هذه الفريضة، وعموم أثرها في صلاح الأمة كان لابد لمن يباشرها من العلم والرفق والصبر: العلم قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرفق معه، والصبر بعده؛ حتى لا يترتب على قيامه به من المفاسد أضعافُ المصالح التي تُرجى من إقامته، ولهذا جاء في الأثر عن بعض السلف قوله : «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه»(1).
وكم من المظالم والشناعات قد ارتُكبت عبر التاريخ تحت دعاوى الاحتساب، وجرَّت على الأمة ما جرَّت من الفساد والفتن وإراقة الدماء!
يقول ابن تيمية: «إذا كان الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحةُ فيها راجحةً على المفسدة؛ إذ بهذا بُعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد.. ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، فحيث كانت مفسدةُ الأمر والنهي أعظمَ من مصلحته لم تكن مما أمر الله به»(2).
وكثيرٌ مما ذكرت مردُّه إلى السلطان، ولا يُترك أمرُه للعامة وأشباه العامة، لما يترتب على ذلك من المفاسد الراجحة الظاهرة التي لا تخفى على أحدٍ، فضلًا عن ضرورة البدء بالقيام بواجب الدعوة إلى الله، واستفاضة البلاغ بحقائق الإيمان. وما لا يسعُ المسلمَ جهلُه من حقائق الدين عقائد وشرائع، وتبيين الحقائق فيما تطاير من البدع، ورفع الالتباس فيما تراكم من الجهالات عبر عقود طويلة من الزمن، الأمر الذي يقتضي الرفقَ والروية والأناة.
وقد رأينا النبي ﷺ لم يهدم الأصنام إلا عامَ الفتح في مكة، بعد أن ظل طوال هذه السنوات يهدمها أولًا في نفوس عبادها وقلوبِ المتألهين لها من دون الله.
وعلى هذا فلا يُعتبر شنُّ الغارة على بعض أوكار الفساد داخلَ بلاد الإسلام كالخمارات وبيوت الخنا ونحوه، أو هدم بعض القبور بدعوى الإنكار على البدع والشركيات- مباشرةً مشروعةً لهذه الفريضة؛ لما ثبت بيقين من أن مفاسد هذه الأعمال تربو على مصالحها، وقد تمهَّد أن الاحتساب على المنكرات إذا ربت مفاسده على مصالحه نهي عنه، وإن كان الله يبغض هذه المنكرات ويسخط أصحابها.
ولا يعتبر قصدُ شيء من المرافق العامة بتخريب أو إتلاف مباشرةً مشروعةً لهذه الفريضة؛ لأن هذه المرافق العامَّة لم تزل معصومةً باعتبارها مِلكًا لجماعة المسلمين، ولا يتسنى القول بإهدارها باعتبارها أيلولة الولاية عليها مؤقتًا إلى العلمانيين واللادينيين، ولأنه مشاركة ظالمة في جريمة إفقار الأمة وإتلاف أموالها وإهدار مقدراتها ومظاهرة لخصومها عليها، وإن لم يقصد إلى ذلك هؤلاء الغلاة والمعتدون.
الحصاد النكد لهذه الأعمال:
وقد رأينا من شؤم هذه العمليات في واقعنا المعاصر ما تقشعرُّ لهوله الأبدان، ومن ذلك على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر:
• الإساءة لأهل الصلاح والتُّقى، ورميهم بالإرهاب، وهم منه براء. وهذا واقع مشاهد، فبعض الجهلة تساورهم الريبة في كل من يتمسكون بشعائر دينهم وهدي نبيهم الظاهر، حتى ظنوا أن كل من فعل ذلك فهو من القتلة والإرهابيين.
• تهيئة الأجواء للدعوة إلى تغيير المناهج الدينية بما يوافق الأهواء، كحذف باب الولاء والبراء مثلًا، أو حذف كل ما يتحدث عن محاربة البدع والشركيات، أوالحديث عن عقائد غير المسلمين وما شابه ذلك.
• إضعاف الدَّعم الذي كان يبذل للعمل الإسلامي في المشارق والمغارب من قبل ذوي اليسار في الأمة، فقد بات المحسنون يتوجسون أن ترتد هذه الأعمال سهامًا في صدورهم عندما يتهم بعض من يتلقونها بالإرهاب، وتتسع رقعة الاتهام لتنال كل من آزرهم، أو قدم لهم عونًا في لحظة من اللحظات، لاسيما في ظل ما تباشره الدول الكبرى هذه الأيام من مراقبة صارمة ودقيقة لحركة تدفق الأموال في الشرق والغرب، وكم تضررت من ذلك مراكز ومساجد ومؤسسات إسلامية وجمعيات خيرية كانت في أوج ازدهارها قبل شيوع هذه الأعمال وتطاير شررها!
• الصد عن سبيل الله تعالى وإغلاق باب الدعوة لله، فقد توقَّفت قوافل الدعوة التي كانت تنطلق من كثير من الدول الإسلامية وحجبت عنها ميزانياتها وجمدت برامجها، نظرًا لعدم قبول الدول المستقبلة لهم خوفًا من أن يكونوا إرهابيين، وتخوف الدول المرسلة من أن تنسب إلى دعم الإرهاب وتوضع في قائمة الدول الراعية له على الصعيد الدولي.
• إساءة الظن بالإسلام والمسلمين، في المشارق والمغارب وهو أمر لا يُمكن تجاهله، كيف وقد اعتبره النبيُّ ﷺ عندما امتنع عن قتل بعض المنافقين الذين أظهروا ما يستوجبون به القتل مخافة أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟!
هذا غيض من فيض من الحصاد النكد لهذه الأعمال الخارجة على الشريعة، والسعيد من وُعظ بغيره، وأسأل الله أن يُرينا الحقَّ حقًا وأن يرزقنا اتباعَه، والباطل باطلًا وأن يرزقنا اجتنابه، وأن يهدينا جميعا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه. والله تعالى أعلى وأعلم.

________________

(1) «مجموع الفتاوى» (28/137).

(2) «مجموع الفتاوى» (28/126).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend