أهل الشورى

أحسن الله إليكم وجعل أيامكم عامرةً بالطاعات.
السؤال: بالنسبة لأهل الشورى، ثمة رأي يجعل أهل الشورى جميع المسلمين على اختلاف مستوياتهم دون تفريق البتة، ورأي آخر يجعلهم محصورين في أهل الحَلِّ والعقد أو أهل التخصص في كل أمر على حسبه، ورأي ثالث يفرق بين الحالة التي تكون النازلةُ فيها عامةً فيجعل أهل الشورى عموم المسلمين فيها، وبين أخرى تكون النازلة خاصة فيجعل الشورى خاصة بأهل هذه النازلة الخاصة. ما هو الصواب في المسألة وما هو الرأي الأقرب للصواب؟ جزاكم الله خيرًا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلعلَّ المدخل المناسب للتعريف بأهل الشورى أو بأهل الحل والعقد أن نؤكد على أمرين:
• الأول: أن رياسة الدولة عقدٌ من العقود، يبرم بين طرفين: الأمة من ناحية، والرئيس الذي وقع عليه الاختيار من ناحية أخرى، وعندما يتولى أهلُ الحَلِّ والعقد تقليدَ الرئيس مهام منصبه فإنه يباشرون ذلك باعتبارهم نوبًا عن الأمة وممثلين لها في هذا العقد، ومن هنا جاءت كلمة أهل الاختيار، أو أهل الحل والعقد.
أهل الاختيار لأنهم الذين يباشرون اختيار من يصلح لرياسة الدولة ممن اجتمعت فيهم شروطها نيابة عن الأمة، وهم أهل الحل والعقد لأن بيدهم الحل والعقد، وإليهم يرجع الأمر في الإبرام والنفض، فهم الذين إذا رضوا رضي الناس، وإذا تفرقوا تفرق الناس.
• الثاني: أن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم أحكامها، وقد أكدت الشريعة في باب الشورى على المبدأ وأعلت من شأنه، وأنزل الله في الشورى سورةً كاملة في كتابه الكريم، ولكنها أحالت فيما يتعلق بآليات التطبيق وأساليبه إلى الاجتهادات البشرية، المسترشدة بمقاصد الشريعة، وبما يحقق المصالح العامة لجماعة المسلمين، فلم تتنزل في ذلك نصوص قرآنية مباشرة، ولم ترد فيه سنة نبوية قاطعة فيما نعلم في تحديد شيء من ذلك.
ولقد كانت آليات تطبيق هذه القيمة الإسلامية العليا في بداية الأمر تلقائية، شأنها شأن كثير من التراتيب الإدارية في الدولة الإسلامية الجديدة، ولكن لن يعدم الباحث في منظومة السوابق التاريخية في أيام الراشدين، ومن جاء من بعدهم من الخلفاء وملوك المسلمين، من الوقوف على منائر وعلامات مضيئة، تهديه في سعيه نحو استكشاف نظرية سياسية إسلامية، ونحو الانتقال بهذه الفكرة من البساطة والعفوية، إلى التأصيل والتقعيد والنظام.
فإذا رجعنا إلى تراثنا في هذا الباب لنتعرف على أُولي الأمر الذين أُمِرنا بطاعتهم في كتاب الله في مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فسنجدُ أنهم العلماء والأمراء، أي أهل العلم وأهل القدرة، أو القيادات الدينية والدنيوية في مختلف المجالات، وكل متبوع مُطاع في جماعة المسلمين، وقد استطاع الماوردي أن يُبَلور شروطًا فيمن يستشرف لهذا المقام، فتحدث عن شروط ثلاثة: العدالة، والعلم، والكفاية. فقال رحمه الله: «الشروط الـمُعتبرة فيهم ثلاثة: أحدها العدالة الجامعة لشروطها. والثاني: العلم الذي يُتوصل به إلى معرفة من يستحقُّ الإمامةَ على الشروط المعتبرة فيها. والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلحُ وبتدبير المصالح أقوم وأعرف»(1).
ويمكننا أن نُضيف شرطًا رابعًا وهو التمثيل، أي أن يكون هؤلاء ممثلين لمختلف أقطار الدولة الإسلامية، ليكون الرِّضا بهم عامًّا والتسليم باختيارهم إجماعًا.
وبقي أن نُشير إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن حديثَ الماوردي وغيره من أهل العلم عما يشترط في أهل الاختيار إنما يكون في حالة السعة والاختيار، وقل أن توجد مثل هذه الحالة في واقعنا المعاصر؛ فإن كثيرًا من ديار الإسلام تعيش حالة من التعدُّدية الدينية والثقافية والسياسية، فهي لم تتمحض لأهل الدين وحدهم، ويوجد فيها من بعض مُسلمة الدار من انحازوا إلى العلمانية، وله خصومة كبرى مع الشريعة ودعاتها، سواء أكان ذلك بجهالة وسوء تأويل، أم كان عن إصرار وعناد ومشاقة، وهؤلاء قد أصبحوا واقعًا معيشًا، شئنا هذا أم أبينا، وتجاهل إشراكهم في الحَلِّ والعقد يمنع سفينة الوطن من أن تستوي على الجودي!
فلا مناص من صحيفة مدينة جديدة، أو من عهدة وطنية تجمع بين هؤلاء جميعًا على مشترك من الخير، والصالح العام، ويكون لأصحابها على اختلاف تنوعاتهم وانتماءاتهم الفكرية والمنهجية مشاركة في الحل والعقد، لا بديل من ذلك إلا بقاء التشرذُّم والتناحر، وشيوع الفتن وانتشار الحرائق، وتلك أحكام الضرورة والاقتهار التي يُترخص معها ما لا يترخص في غيرها.
أما كيفيَّة اختيار أهل الحَلِّ والعقد أو أهل الشورى:
فإن الأمر في ذلك واسع، ولا يكادُ يجد الباحث أضبطَ ولا أنفع من أن يُفرز كل قطر من أقطار الدولة الإسلامية من يمثله أو من يمثلونه في هذا المجال، في إطار الشروط التي وضعها أهل العلم لذلك من العدالة والعلم والكفاية ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، ومن خلال مجموع هؤلاء تتكون هيئة أهل الحَلِّ والعقد أو مجلس الشورى.
أما ما يحدث الآن في بعض المواضع التي تنتسب إلى الشريعة، وتجعل اختيار أعضاء هذه الهيئة ابتداءً مرده إلى السلطان، وتجعل ما يعرض عليها من شئون مرده إلى السلطان، وتجعل قبول ما يصدر عنها مرده إلى السلطان، الأمر الذي يئول معه الحَلُّ والعقد كله إلى السلطان، ولا يبقي لأهل الحل والعقد منه في النهاية لا حل ولا عقد، فهو أمر لا ينقضي منه العجب!
وينعكس على أصل هذه الفكرة بالنقض؛ فقد اتُّخذ ذلك سبيلًا- كما يقول أحد الباحثين- إلى الإلغاء الفعلي لدور الأمة ومشورتها واستبعاد أي أثر لها في تدبير شؤونها. فبدلًا من أن تُطبَّق الفكرة وتكون هي التعبير المنظَّم عن إرادة الأمة، أصبحت مجردَ حجة نظرية تُلغى بمقتضاها الأمة، بدعوى أن أهل الحل والعقد يقومون مقامها، بينما الواقع هو أن الحاكم بأمره هو الذي يقوم مقام الجميع.
هذا. لكي يتمكَّن أهل الحَلِّ والعقد من أداء دورهم في تمكين الأمة من محاسبة الولاة، والإشراف عليهم توليةً ورقابةً وعزلًا يَجب ألَّا يكون لهؤلاء الولاة يدٌ عليهم، لا في اختيارهم ولا في أعمالهم، ولا في مكافآتهم ومخصصاتهم المالية.
أما عن كيفية الرجوع إلى الأمة، ومراتب هذا الرجوع، هل هو الاستفتاء العام المباشر، أم هو استفتاء أهل الشورى وحدهم، فكل ذلك من التراتيب الإدارية، ومسائل السياسة الشرعية، التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، والأمر في ذلك واسع، وحيثما كانت المصلحة فثمَّ شرعُ الله، ويقرر الخبراء فيه ما يشاءون.
ويمكن أن يُستدلَّ للاستفتاء العام بما كان من عبد الرحمن بن عوف عندما عُهد إليه بمهمة المفاضلة بين علي وعثمان، واختيار أحدهما للخلافة، ونترك ابن كثير يروي لنا ما قام به رضي الله عنه في هذا الصدد، يقول ابن كثير رحمه الله:
«ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رءوس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا مثنى وفرادى ومجتمعين، سرًّا وجهرًا؛ حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِدُ من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعليِّ بن أبي طالب. ثم بايعا مع الناس»(2).
ولا بأس أن يُستفاد بالخبرات البشرية العالمية في هذا المجال، للتعرف على أنفع الطرائق في تحقيق المقصود العام من الشورى، وقد أصبحت السياسة عِلمًا مستقلًّا، وصارت لها كليات ومعاهد متخصصة، والحكمة ضالة المؤمن، والأصل في العادات الحل، وقد اقتبس عمر رضي الله عنه من الفرس بعض تراتيبهم الإدارية، وأقره على ذلك الصحابة جميعًا، ولا مانع من أن يجلس بعض قيادات العمل الدعوي متعلمين من أهل الدين من أساتذة السياسة والاقتصاد ليتعلموا منهم نُظُمَ الحكم وتراتيبه وآلياته المعاصرة في مختلف الشئون، فهم أهل التخصص في هذا الميدان، وأن يقاوموا في أنفسهم ما اعتادوا عليه من التصدر والريادة، فلا ينبغي لأحد أن يستنكف عن التعلم مهما علا مقامُه وكثر أتباعه.
ولعل مما نؤكد على مشروعيته في هذا المقام حقُّ الأمة ممثلةً في أهل الحلِّ والعقد أو من خلال استفتاء مباشر أن تبايع بيعة مشروطة بوقت أو بفعل، كما اشترط الصحابة على عليٍّ رضي الله عنه إقامةَ القصاص على قتلة عثمان رضي الله عنه، وكما اشترط عبد الرحمن بن عوف على عثمان وعليٍّ أن يعملا بالكتاب والسنة وسيرة الخليفتين، وفي الحديث المشهور: «المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا حرَّم حلالًا أو أحل حرامًا»(3).
وللطرف الأصيل في هذا العقد أن يُحدد عقد التولية بمدة معينة، تطول أوتقصر، تتجدد أو لا تتجدد، كما يقع في بعض الدساتير تحديد ذلك بأربع سنوات أو خمس ونحوه، وباب ذلك المصلحة المرسلة، والمشارطة؛ وفي الحديث: «المؤمنون على شروطهم إلا شرطًا حلل حرامًا أو حرَّم حلالًا»، وممن نص على هذا المعنى من أئمة أهل العلم المعاصرين الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله في تعليقه على كتاب «الحسبة» لابن تيمية، حيث قال: «ولا بأس بتقييد الولاية سنةً أو سنتين أو ثلاث أو أربع أو غير ذلك، لا بأس به فهذا جيد لأنه يفيد. وجعل الولاية مُقيَّدة بسنوات هذا طيب حتى يختبر وينظر، وكم من إنسان لا نظن أنه أهلٌ فيكون أهلًا، وكم من إنسان يكون بالعكس نظنُّه أهلًا ويكون غير أهل»، وعلل بأن الولاية ليست عقد إيجار، والتقدير بحسب المصلحة زادت المدة أو نقصت.
وأختم هذه الفتوى بنقل ما جاء في (بيان الأزهر والمثقفين لمناصرة الحراك العربي) حيث نصَّ على ما يلي:
تَعتمدُ شرعية السُّلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية على رضا الشُّعوب، واختيارها الحرِّ، من خلال اقتراع عَلَنِيٍّ يَتمُّ في نزاهة وشفافية ديمقراطية، باعتباره البديل العصري المنظَّم لما سبقت به تقاليد البَيْعَة الإسلامية الرَّشيدة، وطبقًا لتطوُّر نُظُم الحكْم وإجراءاته في الدَّولة الحديثة والمعاصرة، وما استقرَّ عليه العُرف الدستوري من توزيع السُّلُطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والفصلِ الحاسم بينها، ومن ضبط وسائل الرَّقابة والمساءلة والمحاسبة، بحيث تكون الأمة هي مصدر السُّلطات جميعًا، وهي مانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة. وقد دَرَجَ كثيرٌ من الحكَّام على تعزيز سلطتهم المطلقة مُتشبِّثينَ بسُوء الفهم للآية القرآنية الكريمة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، متجاهلين سِيَاقَها الشَّرطي المتمثِّل في قوله تعالى قبل ذلك في الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58]، ممَّا يجعل الإخلال بشروط أمانة الحكْم وعَدَمَ إقامة العدل فيه مُسَوِّغًا شرعيًّا لمطالبة الشعوب للحكام بإقامة العدل، ومقاومتها للظلم والاستبداد، ومن قال من فقهائنا بوجوب الصبر على المتغلب المستبد من الحكام حرصًا على سلامة الأمة من الفوضى والهرج والمرج- فقد أجاز في الوقت نفسه عزل المستبد الظالم، إذا تحققت القدرة على ذلك وانتفى احتمال الضرر والإضرار بسلامة الأمة ومجتمعاتها. والله تعالى أعلى وأعلم.

____________________________

(1) «الأحكام السلطانية» (1/6).

(2) «البداية والنهاية» (7/146).

(3) أخرجه الترمذي في كتاب «الأحكام» باب «ما ذكر عن رسول الله ? في الصلح» حديث (1352) من حديث عمرو بن عوف بن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْـمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْـمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا». وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» حديث (1352).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend