معنى حديث «ما بين المشرق والمغرب قبلة»

قال رسولُ الله ﷺ: «مَا بَيْنَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ قِبْلَةٌ». هل أوجِّه اليد اليمنى إلى المشرق واليد اليسرى إلى المغرب وأنظر نقطة الوسط بينهما فتلك هي القبلة؟ نرجو منكم توضيحًا في هذه القضيَّة بواسطة الكتابة والرسم والصُّور إذا كان بالإمكان؟ وأيضًا يا شيخ توضيح قضيَّة الاهتداء بالنُّجوم، يعني كيف نعرف القبلة، وكذلك الجنوب والشمال والشَّرق والغرب؟ بارك اللهُ فيكم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعد:
فإن حديث ««مَا بَيْنَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ قِبْلَةٌ»» حديث صحيح رواه التِّرمذيُّ وابن ماجه وصحَّحه الألبانيُّ (1). وفي الحديث دليلٌ لما عليه الجمهور(2) من أَنَّهُ يَكْفِي الْـمُصلي الْبَعِيدَ عَنْ مَكَّةَ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الكعبة باجتهادٍ، وليس عليه إصَابَةُ الْعَيْنِ، فَيَكْفِي غَلَبَةُ ظَنِّهِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَمَامَهُ، وَلَوْ لَـمْ يُقَدَّرْ أَنَّهُ مُسَامِتٌ وَمُقَابِلٌ لَـهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِالآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وقالوا: شَطْرُ الْبَيْتِ: نَحْوُهُ وَقِبَلُهُ، كما اسْتَدَلُّوا بهذا الحديث السَّابق.
والأظهر عند الشَّافعيَّة(3)، وهو قولٌ لابن القصار عند المالكيَّة(4)، ورواية عن أحمد(5) اختارها أبو الخطاب من الحنابلة: أنه تلزم إصابة العين، واستدلوا بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أي جهته.
والذي عليه الجمهور أقوم قِيلًا، وأظهر دليلًا، إلا أن من كان بمكة عند البيت فيلزمه تحرِّي عين الكعبة ولا يكتفي بمُجرَّد جهتها. قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث؟ فقال: هذا في كلِّ البلدان إلا بمكة عند البيت؛ فإنه إن زال عنه شيئًا وإن قلَّ فقد ترك القبلة. ثم قال: هذا المشرق- وأشار بيده- وهذا المغرب- وأشار بيده- وما بينهما قبلة. قلت له: فصلاة من صلَّى بينهما جائزة؟ قال: نعم، ويَنْبَغي أن يتحرَّى الوسط. قال ابن عبد البرِّ: تفسير قول أحمد: «هذا في كلِّ البلدان» يُريد أن البلدان كلَّها لأهلها من السَّعة في قبلتهم مثلَ ما لمن كانت قبلته بالمدينة الجنوب التي تقع لهم فيها الكعبة، فيستقبلون جهتها ويتَّسعون يمينًا وشمالًا فيها ما بين المشرق والمغرب. وإنما تضيق القبلة كلَّ الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلًا، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلًا، ثم هي لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا(6).
أما قضية الاهتداء بالنجوم فلعل سكان البوادي والقرى أحوج إليها، ولا أحسب أن مثلك في حاجة إليها مع وجود البوصلة التي تُحدد لك الجهات المختلفة، ومنها ما يُحدد جهة القبلة، وقد أصبح ذلك من الشيوع ما يُغني عن التعويل على النجوم، ومن المعلوم أن القبلة بالنسبة للمقيمين في الولايات المتحدة هي إلى الشمال الشرقي، ومعرفة ذلك متاح وميسور. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

___________________

(1) أخرجه الترمذي في كتاب «الصلاة» باب «ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة» حديث (342)، وابن ماجه في كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب «القبلة» حديث (1011)، من حديث أبي هريرة  رضي الله عنه ، وذكره الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (342).

(2) جاء في «بدائع الصنائع» من كتب الحنفية (1/115-122): «ثم جملة الكلام في هذا الشرط-استقبال القبلة- أن المصلي لا يخلو إما إن كان قادرا على الاستقبال أو كان عاجزا عنه فإن كان قادرا يجب عليه التوجه إلى القبلة إن كان في حال مشاهدة الكعبة فإلى عينها، أي: أي جهة كانت من جهات الكعبة، حتى لو كان منحرفا عنها غير متوجه إلى شيء منها لم يجز، لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، وفي وسعه تولية الوجه إلى عينها فيجب ذلك، وإن كان نائيا عن الكعبة غائبا عنها يجب عليه التوجه إلى جهتها، وهي المحاريب المنصوبة بالإمارات الدالة عليها لا إلى عينها، وتعتبر الجهة دون العين».
وجاء في «فتح القدير» من كتب الحنابلة (1/269-270): «قال (ويستقبل القبلة) لقوله تعالى: {فولوا وجوهكم شطره} ثم من كان بمكة ففرضه إصابة عينها، ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح لأن التكليف بحسب الوسع».
وجاء في «المنتقى» من كتب المالكية (1/340-341): «(فصل): وقوله إذا توجه قبل البيت يريد أنه لا اجتهاد له في ذلك وإنما اجتهاده في تعيين سمت القبلة في هذه الجهة دون سائر الجهات. (مسألة): إذا ثبت ذلك فاختلف متأخرو أصحابنا هل يلزمه أن يجتهد في إصابة الجهة أو العين قال القاضي أبو محمد: وأكثر أصحابنا أنه إنما يلزمه الاجتهاد في إصابة الجهة والدليل على ذلك قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} والشطر النحو والجهة قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه. والوجه الثاني عندي أظهر أن الفرض الاجتهاد في طلب العين وإن لم يلزمنا إصابته ولزمنا إصابة جهته وسمته والله أعلم وأحكم».
وجاء في «شرح الزركشي» من كتب الحنابلة (1/532-534): «استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة…، ثم إن كان يعاينها ففرضه إصابة عينها، لقدرته على ذلك، فيحاذيها بجميع بدنه، بحيث لا يخرج شيء منه عنها، وحكم من كان بمسجد النبي- صلى الله عليه وسلم- حكم من كان بمكة، لأن قبلته [متيقنة] الصحة، وإن كان غائبا عن الكعبة [أو عن مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- ففرضه الاجتهاد إلى جهة الكعبة] على المشهور من الروايتين، واختاره الخرقي ، والشيخان وغيرهما؛ لما روى أبو هريرة [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما بين المشرق والمغرب قبلة. رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.- وصح عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. وهذا يدل على أن ما بينهما قبلة».

(3) جاء في «نهاية المحتاج» (1/424-427): «(استقبال) عين (القبلة) أي الكعبة بصدره لا بوجهه (شرط لصلاة القادر) على الاستقبال لقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أي جهته».

(4) جاء في «شرح مختصر خليل للخرشي» من كتب المالكية (1/256-257): «(ص) وإلا فالأظهر جهتها اجتهادا (ش) أي وإن لم يكن بمكة ولا بالمدينة ولم يكن مسافرا فإن الواجب عليه استقبال الجهة لا السمت خلافا لابن القصار وينبني عليهما لو اجتهد فأخطأ فعلى المذهب يعيد في الوقت استحبابا وعلى مقابله أبدا كما هو مذهب الشافعي».

(5) جاء في «شرح الزركشي» من كتب الحنابلة (1/532-534): «… (والرواية الثانية): يجب الاجتهاد إلى عين الكعبة. اختاره أبو الخطاب في الهداية».

(6) «التمهيد» لابن عبد البر (2/267)، و«تحفة الأحوذي» (2/267).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   02 الحديث الشريف وعلومه

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend