التساهل في الفتوى

بارك الله فيكم على هذا الجهد العظيم، وأسال الله جل وعلا أن يستعملكم ولا يستبدلكم، لي رجاء بارك الله فيكم: لقد وجدت رسائل في مجموعات البريد الإلكتروني بأعداد كبيرة، خاصة ذات اللغة الإنجليزية، يسأل أصحاب الرسائل أسئلة لا يستطيع الإجابة عنها إلا علماء أمثالكم كالطلاق والمحرمات وغير ذلك. ويتساهل أكثر المجيبين عنها؛ سواء العامي أو قليل العلم أو طلاب العلم، ممن لا يحسنون أن يفرقوا بين الدليل ومراتب الدليل ومناطات الدليل، ولا بين المجمل والمبين، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ. فرجائي شيوخي الأفاضل نصيحة لهؤلاء الإخوة والأخوات لعل الله أن يهديهم إلى الصراط المستقيم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا يخفى أن الفتوى أمانة ومسئولية جسيمة، والـمُفتُون موقِّعون عن الله ، ومن أكبر الكبائر أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم، وقد كان أسلافنا يتدافعون الفتيا فيما بينهم ويرون فيها ابتلاء ومحنة، حتى قال عبد الرحمن بن أبي ليلي: لقد أدركت مائة وعشرين من الأنصار في المسجد ما كان منهم من مُفت إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا، وما كان منهم من محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث.
فيا إخواننا المشتغلين بالفتوى إليكم هذه المقالة:
نحو ميثاق شرف للفتوى والاستفتاء
الفتوى بيان للحكم الشرعي، والـمُفتون موقعون عن الله تعالى، فهم ورثة الأنبياء، والقائمون في الأمة مقام النبي ﷺ، وانتصابهم للإفتاء فرض على الكفاية، واستفتاؤهم فيما يجد من النوازل متعين على من نزلت به هذه النازلة.
والاستفتاء كغيره من أعمال المكلفين لابد له من الإخلاص والصواب، فهما الجناحان اللذان تطير بهما الأعمال إلى الرب جل وعلا، ولكي يتحقق ذلك في عالم الفتوى لابد له مما يلي:
أولًا: بالنسبة للمستفتي:
– كون الغاية من الاستفتاء رفع جهالة أو إزالة شبهة، وليس مجرد الإعنات أو تزجية الأوقات.
– البيان الدقيق للنازلة وتحري الأمانة في عرضها، فإن المفتي أسير المستفتي، وبقدر دقة المستفتي في عرض نازلته تكون دقة الفتوى ومطابقتها لمقتضى الحال.
– التجرد لطلب الحكم الشرعي، وتجنب السعي لإسباغ المشروعية على الأهواء. فإن حقيقة التكليف إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لمولاه.
– اتباع من غلب على ظنه أنه يُفتيه بحكم الله، وسبيله إلى ذلك اتباع الأعلم والأورع عندما تختلف عليه فتاوى المفتين، ويعرف ذلك بالشيوع والاستفاضة.
– القصد في طلب الدليل، وعدم الإلحاح في طلبه إذا أعرض عن ذكره المفتي.
– تجنب التنقل بين المفتين، حتى لا يوقعه ذلك في الحيرة والاضطراب، بل يرفع نازلته إلى من يثق في دينه وعلمه من أهل الفتوى ثم يصدر عن فتواه، فإن حاك في صدره شيء منها رفع نازلته إلى الأمثل فالأمثل حتى يطمئن قلبه.
– تجنب ما نُهي عنه من الأسئلة، مما لا يكون العلم بها مفيدًا ولا الجهل بها ضارًّا، كتلك التي لا ينبني عليها عمل، وتفتح بابًا إلى الجدل.
– تجنب القصد إلى إعنات المفتي أو امتحانه أو تجهيله وإحراجه على الملأ.
– تجنب الأسئلة التي يقتضي الجواب عنها استعداء الظلمة على أهل الفتوى، وما تقتضيه الضرورة من ذلك لا ينبغي طرحه على الملأ.
– تجنب الأسئلة التي تقتضي تعريضًا بالهيئات أو الأشخاص؛ خصوصًا في واقع الفتنة، إلا ما تعين إعلان النكير عليه من البدع المغلظة التي يمتحن بها ويوالى ويعادى على أساسها.
– تجنب الصيال بفتاوى المفتين على الآخرين، أو إقحام المفتين في معارك لم يكونوا طرفًا فيها ولا دراية لهم بأبعادها.
– تفهم صمت المفتي، وإعراضه عن الفتوى أو تجاهله لها في بعض المواقف، وعدم الإلحاح عليه في طلبها، فإن من المسائل ما يكون جوابه الصمت أو التجاهل.
– تحين الوقت الملائم للاستفتاء، فلا يسأل المفتي أثناء اشتغاله بالحديث إلى آخرين، ولا يسأل أثناء استغراقه بعارض ألم به من هم أو غضب أو فرح ونحوه.
– توقير أهل الفتوى وإنزالهم منازلهم، ومن ذلك إجلالهم في الخطاب، والدعاء لهم في مستهل استفتائهم ونحوه.
ثانيًا: بالنسبة للمفتي:
– تجريد القصد لله تعالى، ودوام الضراعة إليه، وصدق التوكل عليه، فـ«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». و««مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَـهَا مِنْ حِرْصِ الْـمَرْءِ عَلَى الْـمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»»(1)، ومن لم تكن له نيَّةٌ لم يكن عليه نُورٌ، ولا على فتواه نور.
– التوقر والحلم والسكينة، والإقلال من اللغو وفضول الضحك والعبث ونحوه صيانة لمقام الفتوى وتعظيمًا لشعائر الله عز و جل .
– صيانة الفتوى من التأثر بالأهواء الحزبية أو التنظيمية، والحذر من الاستدراج لأهواء العوام كالحذر من الاستدراج لأهواء السلاطين.
– قول الحق ولو كان مرًّا، ومن لم يقو على قول الحق فلا أقل من أن يصمت فلا ينطق بباطل.
– التثبت في الفتيا، فلا يفتي إلى بعد إيقان وإتقان، فإن أَجْرأ الناس عَلَى الْفُتْيَا أقلهم علمًا، وأجرأهم على الفتيا أَجْرَؤهمْ عَلَى النَّارِ.
– رد العلم إلى الله فيما خفي عليه خير من التورط في اتباع الظن والقول على الله بغير علم.
– تجنب الإجمال أو التعميمات التي توقع في الإيهام، ومن ذلك أن يوهم بانعقاد إجماع فيما لم ينعقد فيه إجماع.
– حمل العوام على المعهود الوسط من أقوال أهل العلم، وتجنب المشتهرات وغرائب الأقوال.
– تجنب الطعن في المخالف له من أهل الفتوى، والحذر من التعريض بهم في مجلسه، أو الاستعداء عليهم في فتواه، فإنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولا حرج في تعقيبه على ما يعتقده مجانبًا للصواب تبرئة للذمة، ونصحًا للأمة، وخروجًا من إثم كتمان العلم.
– تجنب التساهل في الفتيا بتتبع الرخص أو بالتلفيق المذموم، فإن من عرف بذلك حرم استفتاؤه وتقليده.
– الفقه هو الرخصة من العالم الثقة، أما التحريم فيحسنه كل أحد، والجرأة على التحريم كالجرأة على التحليل، فكلاهما قول على الله بغير علم.
– الحرص على التشاور مع إخوانه من أهل الفتوى، وإحالة الفتاوى التي تحتاج إلى نظر جماعي إلى لجان الفتوى أو المجامع الفقهية، فإن نظر الجماعة أولى بالصواب من نظر الفرد، وقد وفرت وسائل التقنية المعاصرة كثيرًا من الإمكانات في هذا المجال.
– أهلية التصدر للدعوة والإرشاد لا تعني بالضرورة أهلية التصدر للإفتاء أو القضاء، لما لا يخفى من الفرق الواضح بين المقامين.
– صيانة الفتوى أن تكون أداة للصيال على الآخرين، أو أن تصبح وقودًا للفتنة في خصومة قائمة.
– الرفق بالمستفتين، والحرص على تألف قلوبهم على طاعة الله ورسوله، والصبر على استفتاءاتهم مهما بدت يسيرة ومعادة، والإرشاد إلى البدائل المشروعة إذا تعلق الاستفتاء بتصرفات أو عقود غير مشروعة.
– تجنب العجلة في إصدار الفتاوى في الخصومات القائمة قبل الإحاطة بملابساتها، والاستماع الدقيق إلى مختلف أطرافها، فإن الإفتاء قد يقترب من القضاء في بعض المواقع من حيث إلزامه وفصله في الخصومات.
– دعم الفتوى بالدليل ما أمكن، تعميقًا لمعنى الاتباع في نفوس المستفتين، ولاسيما فيما وردت فيه أدلة مباشرة من الأقضيات والنوازل.
– الكفاية والاستغناء عن الآخرين، صيانة لمقام الفتوى عن التشوف إلى ما في أيدي المستفتين، والترفع عن مزاحمتهم فيما يدورون في فلكه من أمور دنياهم وإن كان من المباحات. والله تعالى أعلى وأعلم.

___________________

(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/456) حديث (15822)، والترمذي في كتاب «الزهد» باب «ما جاء في أخذ المال بحقه» حديث (2376) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح»، وصححه الألباني في «صحيح وضعيف الترغيب والترهيب» حديث (1710).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   04 أصول الفقه وقواعده

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend