مصافحة المرأة الأجنبية

هل يجوز للمرأة المسلمة أن تُصافح زميلًا أو رئيسًا لها في العمل ممن لا يعقلون منعَ المصافحة بين الجنسين، وكان تركُ ذلك يؤدي إلى الحرج، ويُنشئ بعضَ التوترات في العلاقات المهنية؟ خاصة في اللقاءات الأولى للتعرف على الموظف، وتقرير مدى صلاحيته للعمل في هذه المؤسسة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن المصافحة هي مفاعلة، من إلصاق صفح الكف بالكف، وإقبال الوجه على الوجه، كما ذكر ابن منظور في «لسان العرب»(1).
وقال الحافظ ابن حجر: «المرادُ بالمصافحة الإفضاءُ بصفحة اليد إلى صفحة اليد»(2).
والمرأة الأجنبية هي من ليست زوجةً ولا مَحْرَمًا. والمَحْرَم: مَنْ يَحْرُم نكاحها على التأبيد، إما بالقرابة، أو الرضاعة، أو المصاهرة.
والمستقِرُّ فقهًا عند جماهير أهل العلم هو منع مصافحة المرأة الأجنبية، سواء أوُجدت الشهوة أم لم توجد. ومن أدلتهم على ذلك ما يلي:
• امتناع النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، وعدم مصافحته صلى الله عليه وسلم النساء في البيعة، يدل على أنه لم يصافِح النساء في غير البيعة بطريق الأولى.
• ومن الأحاديث الدالة على ذلك: حديثُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10]. قالت عائشة: فمن أقرَّ بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقرَّ بالمحنة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن؛ قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ». لا والله ما مست يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله يقول لهن إذا أخذ عليهن: «قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا»(3).
قال الحافظ ابن حجر: «قوله: «قد بايعتك كلامًا»: أن يقول ذلك كلامًا فقط لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة»(4).
وقال الإمام النووي: «قولها: «والله ما مسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام»: فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام، وفيه أن كلام الأجنبية يُباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، وأنه لا يلمس بشَرَة الأجنبية من غير ضرورة، كتطبيب وفصد»(5).
• ومن ذلك أيضًا حديثُ أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه، فقلن: نبايعك يا رسول الله على ألا نشركَ بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ». قالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِـمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ» أو «مِثْلَ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ»(6).
• ما رواه الطبراني عن مَعقِل بن يَسَار يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ»(7). وفي لفظٍ آخر عنده: «لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ رَجُلٍ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ»(8).
• أن مصافحة الأجنبية ذريعةٌ إلى الافتتان بها: فمن غير المقبول أن يُحَرِّم الشارع شيئًا، ثم يجعل الأسبابَ المؤدِّيةَ إليه والمغريةَ به مباحةً، ولا يرتاب أحد سَوِيٌّ في أن لمس الرجل شيئًا من بدن الأجنبية كما هو الحال في المصافحة ذريعةٌ إلى الافتتان بها، وبما أن المصافحة كذلك- فإنها تَحْرُم؛ لأنها مقدمة ووسيلة للافتتان بالمرأة.
وإذا رجعنا إلى أقوال الفقهاء في هذا الصدد وجدناهم يُفرِّقون بين الشابة والعجوز:
أما الشابَّة فيمنع جمهورُهم مصافحتَها، بخلاف الشافعية، فإنهم يجيزونها إذا دعت الحاجة بشرطين: أمن الفتنة، ووجود حائل. ففي «المنهاج وشرحه» للرملي: «ويجوز للرجل دَلْكُ فَخِذِ الرجل بشرطِ حائلٍ وأمن فتنة، وأُخِذ منه حِلُّ مصافحة الأجنبي مع ذينك، وأَفْهَمَ تخصيصُه الحِلَّ معهما بالمصافحة حرمةَ مَسِّ غيرِ وجهها وكفيها مِن وراء حائل ولو مع أَمْن الفتنة وعدم الشهوة، ووَجْهُه أنه مَظِنَّةٌ لأحدهما، كالنظر، وحينئذ فيلحق بها الأمردُ في ذلك، ويؤيِّدُه إطلاقُهم حرمةَ معانقته الشاملة لكونها من وراء حائل»(9).
وأما المرأة العجوز فإن جمهورهم بخلاف المالكية يُجوِّز مصافحةَ الرجل للمرأة الأجنبية إذا كانت عجوزًا لا تُشتهى، وأطلق المالكية القول بالمنع(10).
ففي «تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق» للزيلعي الحنفي: «ولا يجوز له أن يمس وجهها، ولا كفَّيها، وإن أَمِنَ الشهوة؛ لوجود المحرم، وانعدام الضرورة والبلوى. وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(11). وهذا إذا كانت شابة تُشتهى، وأما إذا كانت عجوزًا لا تُشتهى فلا بأس بمصافحتها ومسِّ يدها؛ لانعدام خوف الفتنة. وقد رُوي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يدخُل على بعض القبائل التي كان مسترضعًا فيهم، وكان يُصافح العجائز(12)، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه استأجر عجوزًا لتُمرِّضَه، وكانت تكبس رجليه، وتفلي رأسه(13)»(14).
وفي «الإقناع وشرحه» للبهوتي: «ولا تجوز مصافحةُ المرأة الأجنبية الشابة؛ لأنها شرٌّ من النظر، أما العجوز فللرجل مصافحتُها على ما ذكره في «الفصول» و«الرعاية»، وأطلق في رواية ابن منصور: تُكرَه مصافحة النساء»(15).
والذي نخلص إليه من هذا كله أنه لا وجه للتحيُّل على النصوص الواضحة، وإطباق الكثرة الكاثرة من الفقهاء على منع مصافحة الأجنبية الشابة، وما ذهب إليه الشافعية من جواز مصافحة الأجنبية عند الحاجة وأمن الفتنة ووجود الحائل قولٌ متوجهٌ، ويمكن اللجوء إليه عند الاقتضاء.
ومن وقع في شيء من مخالفة هذه الأحكام فخيرٌ له أن يقر بضعفه، وأن يستغفر ربه، من أن يلتمس الحيَلِ لاستباحته، فقد قال ربي جل وعلا: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، لاسيما إذا نظرنا إلى هذه المصافحة غير المقصودة أنها من اللَّمَم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فدخوله في اللَّمم عند الضعف وإلحاق ذلك بالتوبة والاستغفار قد يكون أيسرَ من التماسه تسويغًا لما ظهر منعه وتبينت حرمته.
فقد روى مسلم عن ابن عباس قال: ما رأيتُ شيئًا أشبه باللَّمَم مما قال أبو هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْـخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ»(16).
ثم شرح ذلك النووي فقال: «وأما قول ابن عباس: ما رأيت شيئًا أشبهَ باللمم مما قال أبو هريرة. فمعناه تفسيرُ قولِه تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم: 32]، ومعنى الآية والله أعلم: الذين يجتنبون المعاصيَ غير اللمم يُغفَر لهم اللَّمَم، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]، فمعنى الآيتين أن اجتناب الكبائر يُسقط الصغائر، وهي اللمم. وفسره ابن عباس بما في هذا الحديث من النظر واللمس ونحوهما، وهو كما قال. هذا هو الصحيح في تفسير اللمم، وقيل: أن يُلِمَّ بالشيء ولا يفعله. وقيل: الميل إلى الذنب ولا يصر عليه. وقيل غير ذلك مما ليس بظاهر. وأصل اللمم والإلمام: الميل إلى الشيء وطلبه من غير مداومة. والله أعلم»(17). والله تعالى أعلى وأعلم.

_____________________

(1) «لسان العرب» (صفح).

(2) «فتح الباري» (11/54).

(3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الطلاق» باب «إذا أسلمت المشركة أو النصرانية» حديث (5288)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «كيفية بيعة النساء» حديث (1866).

(4) «فتح الباري» (8/636).

(5) «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/10).

(6) أخرجه مالك في «موطئه» (2/ 982) حديث (1775)، وأحمد في «مسنده» (6/ 357) حديث (27051)، والترمذي بنحوه في كتاب «السير» باب «ما جاء في بيعة النساء» حديث (1597)، والنسائي في كتاب «البيعة» باب «بيعة النساء» حديث (4181)، وابن ماجه في كتاب «الجهاد» باب «بيعة النساء» حديث (2874)، وابن حبان في «صحيحه» (10/ 417) حديث (4553)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

(7) أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/211) حديث (486)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/326) وقال: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح»، وذكره الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» حديث (1910) وقال: «حسن صحيح».

(8) أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/212) حديث (487)، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (226).

(9) «تحفة المحتاج شرح المنهاج» (7/198).

(10) جاء في «حاشية الصاوي» (4/ 431) من كتب المالكية: «( ولا تجوز مصافحة الرجل المرأة ) : أي الأجنبية».

(11) ذكره ابن حجر في «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (2/225) وقال: «لم أجده».

(12) ذكره ابن حجر في «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (2/225) وقال: «لم أجده أيضًا».

(13) ذكره ابن حجر في «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (2/225) وقال: «لم أجده أيضًا».

(14) «تبيين الحقائق» (6/17-18).

(15) «كشاف القناع» للبهوتي الحنبلي (2/154-155).

(16) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الاستئذان» باب «زنى الجوارح دون الفرج» حديث (6243)، ومسلم في كتاب «القدر» باب «قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره» حديث (2657)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(17) «شرح النووي على صحيح مسلم» (16/206).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   07 آداب وأخلاق, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend