الحسابات الفلكية في إثبات الشهور، والاعتداد بلحظة الاقتران

شيخنا الفاضل الدكتور صلاح الصاوي، أفيدونا أفادكم الله. شهر رمضان طرَق الأبواب والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يبتهجون بمقدم هذا الشهر الفضيل، ونحن في بلدنا (ليبيا)- وبكل أسف- نتضايق كثيرًا، ليس لمقدم هذا الشهر المبارك، لكن للطريقة التي تثبت فيها دخول هذا الشهر الفضيل وانتهائه، حيث يعتبرون لحظة الاقتران (المحاق) علامة لانتهاء شهر وبداية شهر فلكي جديد، هذه اللحظة التي تكون الشمس والقمر في اتجاه واحد من الأرض. هذه الفكرة التي رفضها حتى علماء الفلك أنفسهم، لاسيما د. مسلم شلتوت. من علماء الفلك المحنكين؛ حيث نشر قوله في موقع العربية على الإنترنت قال: وشرط حدوث الاقتران الذي تعمل به ليبيا لتحديد بداية رمضان شرط غير صحيح، ولابد في تحديد بداية الشهر الهجري من رصد الهلال بعد غروب الشمس تجاه الغرب، وليس بلحظة الاقتران التي كانت تتبعها قديمًا الحضارة الرومانية واليونانية وبلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية قبل الإسلام.
شيخنا الفاضل، منذ أن اعتمدت هذه الفكرة خالفنا العالم الإسلامي صومًا وفطرًا، وانقسم الناس عندنا فرقًا فرقًا، بل ووجد من الأئمة أنفسهم عندنا من يخطب خطبة العيد وهو صائم، ولن أنسى سنة 2004 ميلادية التي حدثت لحظة الاقتران قبل أذان الفجر بساعة تقريبًا، ليلة الثلاثين من رمضان، ومع ذلك أعلن أن ذلك اليوم هو يوم الفطر، وأفطرنا والعالم الإسلامي أجمع صائمون. وفي هذا العام ستضاف مخالفة جديدة للرصيد المتراكم، حيث أعلنت ليبيا منذ فترة أن شهر رمضان سيوافق يوم 31- 8- 2008 في حين أن علماء الفلك الثقات من مختلف أقطار العالم الإسلامي يؤكدون أنه سيوافق يوم الفاتح من سبتمبر بإذن الله.
شيخنا الفاضل: سؤالي عن لحظة الاقتران هل هي معتبرة شرعًا؟ ثم لو كنت شيخنا الفاضل في تلكم البلاد كيف ستتصرف صومًا وفطرًا؟ واعذرني سيدي على هذا السؤال- لكي نتخذ من فعلكم قدوة ننجو بها عند الله بعون الله. فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. ثم ما توجيهكم للرعية التي لا حول لها ولا طول تجاه هذه المعضلة؟ وجزاكم الله خيرًا.


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الرؤية الشرعية البصرية هي الأصل في ثبوت الأهلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه تسعة من أصحابه: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْـهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».
ولحديث عبد الله بن عمر ب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْـهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»، فعلق وجوب الصوم على رؤية الهلال لا على مجرد وجوده.
فعلم أن رؤية الهلال مقصودة للشارع في هذا الباب، بخلاف المواقيت في باب الصلاة؛ فقد علق الوجوب على وجودها لا على مشاهدتها؛ فقد أمر بالصلاة لدلوك الشمس، أو لغياب الشفق، أو لطلوع الفجر، ولم يعلقه على رؤية هذه المواقيت، أو مشاهدتها، وبهذا يظهر الفرق بين الصلاة والصيام، ولانعقاد إجماع السواد الأعظم من علماء الأمة على ذلك عبر القرون.
إن من قال من أهل العلم باعتماد الحساب في إثبات دخول الشهر اعتمادًا على ما تأوله من قوله صلى الله عليه وسلم «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» فقد قال بذلك في حالة الإغمام، وفي حق الحاسب وحده، ولم يخالف في تعديته إلى غيره إلا شذوذ من أهل العلم، أما القول به في حالة الصحو، وتعميمه على الأمة كلها وإلزامها به ليكون بديلًا من الرؤية البصرية فهو قول محدث لم يسطر- فيما نعلم- في كتاب من كتب المسلمين من قبل! وإذا كانت الرؤية الشرعية البصرية هي الأصل في هذا الباب، فإن مناط ذلك ما لم تتمكن منها التهمة القوية، بأن تخالف قطعيًّا من العلم اتفق أهل التخصص على كونه من الحقائق القطعية التي لا تتطاول إليها ريبة، مع ملاحظة كثرة المجازفات في دعوى القطعية في هذا المجال! وبالتالي، فإن العمل يكون بالحساب في حالة النفي، وليس في حالة الإثبات، فإذا جزم العلم باستحالة الرؤية البصرية لعدم ولادة الهلال فلا تقبل شهادة الشهود وتحمل على الوهم، أو الكذب.
هذه هي القواعد التي نعتقد أنها تمثل الحق والسداد في هذه المسألة، فإذا خالفت المؤسسات الرسمية ذلك وانتهجت طريقًا آخر وفرضت ذلك على الناس فهنا يأتيك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْم تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ».
فلتصم مع جماعة الناس ولتفطر معهم، وتبرأ ذمتك بذلك ما دام قد بلغ مجموع ما صمته تسعة وعشرين يومًا؛ لأن هذا هو الحد الأدنى في الشهر العربي، لا يمكن أن يكون أقل من ذلك، ولتتجنب الفتن والدخول في مواجهة مع أصحاب السيوف المشهرة. ونسأل الله لنا ولك العافية. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية:   05 الصيام

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend