تعدِّي أذى القرين من الوسوسة إلى إحداث أمورٍ عضوية

بعض الرُّقاة والمعالجين يتعاملون مع القرين كمرضٍ يُصيب الإنسانَ، وهم يرون من ناحيةٍ عملية أن أذاه قد يتعدَّى الوسوسة إلى أمورٍ عضوية، من صرعٍ ونطق على لسان المصاب وغير ذلك، مُستدِلِّين بحديث رَكْضة الشَّيطان للمرأة(1)، وحديث نَخْس المولود حتى يستهلَّ صارخًا(2)، وقد أحدث هذا المذهبُ جدلًا وإنكارًا من قِبل البعض الآخر على أن القرينَ لا يتعدَّى أذاه الوسوسةَ، وأقصد بالقرين أي هو الملازم لكلِّ إنسانٍ منذ الصغر. فهل هناك مانعٌ شرعيٌّ أو عقليٌّ مِن تعدِّي أذى القرين من الوسوسة إلى إحداث أمورٍ عضوية؟
________________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الطهارة» باب «من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة» حديث (287)، والترمذي في كتاب «أبواب الطهارة» باب «ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد» حديث (128) من حديث حمنة بنت جحش قالت: كنت أُستحاض حيضةً كثيرةً شديدة فأتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أستفتيه وأُخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض حيضةً كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: «أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ». قالت: هو أكثر من ذلك! قال: «فَاتَّخِذِي ثَوْبًا». فقالت هو أكثر من ذلك، إنما أَثُجُّ ثجًّا! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيَّهُمَا فَعَلْتِ أَجْزَأَ عَنْكِ مِنَ الْآخَرِ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ». قال لها: «إِنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ الله، ثُمَّ اغْتَسِلِي حَتَّى إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا، وَصُومِي فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْزِيكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي فِي كُلِّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ مِيقَاتُ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فَتَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَتُؤَخِّرِينَ الْـمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ- فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ فَافْعَلِي، وَصُومِي إِنْ قَدِرْتِ عَلَى ذَلِكَ». قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَهَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ!» وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن المسَّ أو دخولَ الجنيِّ في بدن الإنسان ثابتٌ باتِّفاق أئمة أهل السنة والجماعة، ومن أصابه شوب اعتزال أنكر ذلك، ومن الأدِلَّة على أن المسَّ حقيقةٌ واقعة:
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275].
وما جاء في الصَّحيح من قولِه -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»(1). وقد استدلَّ بهذا الحديثِ الأكابرُ من العلماء على إمكانية دخول الجانِّ جسدَ الإنسان، وأن الحديثَ على ظاهره، وممن قال بذلك القرطبيُّ، وابن تيميَّة، والبقاعي، والقاسمي، وغيرهم كثير.
ما صحَّ عن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال: شكوتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نسيانَ القرآن، فضرب على صدري بيده فقال: «يَا شَيْطَانُ، اخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثْمَانَ». فَعَل ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ(2).
وفي روايةٍ قال: لما استعملني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الطائف جعل يعرض لي شيءٌ في صلاتي، حتى ما أدري ما أُصلِّي، فلما رأيتُ ذلك رحلتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ابْنَ أَبِي الْعَاصِ!» قلت: نعم يا رسول الله. قال: «مَا جَاءَ بِكَ؟» قلت: يا رسول الله، عرض لي شيءٌ في صلاتي حتى ما أدري ما أُصلِّي؟ قال: «ذَاكَ شَيْطَانٌ، ادْنُهْ». أي: اقترب، فدنوتُ منه، فجلستُ على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال: «اخْرُجْ عَدُوَّ الله». فعل ذلك ثلاثَ مراتٍ، ثم قال: «الْـحَقْ بِعَمَلِكَ»(3).
وما رواه الحاكمُ عن يَعْلى بن مُرَّة عن أبيه قال: سافرتُ مع رسول الله ﷺ فرأيتُ منه عجبًا… وفيه: وأتَتْه امرأةٌ فقالت: إن ابني هذا به لـممٌ منذ سبع سنين، يأخذه كلَّ يومٍ مرتين؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَدْنِيهِ». فأدنَتْه منه، فتفل في فِيه وقال: «اخْرُجْ عَدُوَّ الله، أَنَا رَسُولُ الله». ثم قال لها رسول الله ﷺ: «إِذَا رَجَعْنَا فَأَعْلِمِينَا مَا صَنَعَ». فلما رجع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- استقبلته ومعها كبشان وأقِط وسمن، فقال لي رسول الله ﷺ: «خُذْ هَذَا الْكَبْشَ فَاتَّخِذْ مِنْهُ مَا أَرَدْتَ». فقالت: والذي أكرمك ما رأينا به شيئًا منذ فارقتنا(4).
قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: «قلت لأبي: إن أقوامًا يقولون: إن الجنِّيَّ لا يدخل بدنَ المصروع؟ فقال: يا بني، يكذبون، هو ذا يتكلَّم على لسانه»(5).
وليس في أئمة المسلمين الذين يُنقل عنهم العلم من يُنكر دخولَ الجنيِّ في بدن المصروع، ومن أنكر ذلك وادَّعى أن الشَّرْعَ يُكذِّب ذلك فقد كذب على الشَّرْع، وليس في الأدِلَّة الشَّرْعيَّة ما ينفي ذلك.
ولكن لا أرى أن نجعلَ من ذلك قضيَّةَ رأي عامٍّ، بل يبلغ الحق وتُقام براهينه، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن أنكر ذلك ممن به شوبُ اعتزالٍ فقد أُتي من قبيل قِلَّة علمه بالمنقول، أو ردِّه بما توهَّمه من العقول. ونسأل اللهَ الهدى للجميع. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.

ـــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب «صفة إبليس وجنوده» حديث (3281)، ومسلم في كتاب «السلام» باب «بيان أنه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة وكانت زوجته أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة. ليدفع ظن السوء به» حديث (2175) من حديث صفية بنت حيي.
(2) أخرجه الحارث في «مسنده» (2/932) حديث (1028)، والطبراني في «الكبير» (9/47) حديث (8347)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/308). وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/3) وقال: «رواه الطبراني وفيه عثمان بن بسر ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات».
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الطب» باب «الفزع والأرق وما يتعوذ منه» حديث (3548)، وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (4/80) وقال: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».
(4) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (2/674) حديث (4232)، وقال: «حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة». وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (485).
(5) انظر «عمدة القاري» (21/214)، و«مجموع الفتاوى» (24/277).

تاريخ النشر : 15 أغسطس, 2017
التصنيفات الموضوعية:   03 الإيمان بالملائكة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend