الإقامة بين أظهر المشركين مع ورود النهي

ما حكم الإقامة خارج ديار الإسلام في ظل النصوص التي تنهى عن الإقامة بين أظهر المشركين، وفي ظل وجود الملايين من المسلمين خارج ديار الإسلام، وعدم قدرة ديار الإسلام على استيعابهم؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الأصل أن يقيم المرء حيث يكون أرضى لله وأعبد له؛ فإن البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصاب خيرًا أقام، أي: حيثما تمكن المرء من إقامة دينه والمحافظة على شعائره وأَمِنَ من الفتنة فيه أقام، بل قد تكون إقامة بعض المسلمين في هذا المكان- على البعد من ديار الإسلام- أفضل، إن كانوا من أهل الدعوة والقدرة على حمل أمانة البلاغ حالًا أو مقالًا؛ لما يترتب على ذلك من المشاركة في حمل مشاعل الهداية والنصح لعباد الله، وقد اختار أصحاب النبي ﷺ أن يتفرقوا في الأمصار، سفراءَ للإسلام، وحملةً لمشاعله، وفضَّلوا ذلك على الإقامة في الحرمين حيث الأرض المباركة وحيث مضاعفة ثواب الأعمال، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن أعرابيًّا سأل رسول الله ﷺ عن الهجرة، فقال: «وَيْحَكَ! إِنَّ شَأْنَ الْـهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم. قال: «فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا؟» قال: نعم. قال: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا»(1).
قال النووي: «(لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) معناه: لن يَنقُصَك من ثواب أعمالك شيئًا حيث كنت… قال العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي: ملازمة المدينة مع النبي ﷺ وترك أهله ووطنه، فخاف عليه النبي ﷺ ألا يقوى لها، ولا يقوم بحقوقها، وأن ينكص على عقبيه؛ فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد، ولكن اعمل بالخير في وطنك، وحيثما كنت فهو ينفعك ولا ينقصك الله منه شيئًا»(2).
وفي الباب حديث فُدَيْك، وكان قد أسلم وأراد أن يهاجر، فطلب منه قومه- وهم على غير الإسلام- أن يبقى معهم، واشترطوا له أنهم لن يتعرضوا لدينه، فأتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله ﷺ: «يَا فُدَيْكُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ، وَاهْجُرِ السُّوءَ، وَاسْكُنْ مِنْ أَرْضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْتَ»(3). وفي الحديث دلالة على جواز إقامة المسلم في غير بلاد الإسلام إذا استطاع أن يقيم شعائر دينه، وأَمِنَ مِن الفتنة فيه.
وقريب منه خبر نعيم بن عبد الله النحام القرشي العدَوِي، كان قديم الإسلام، فقد كان إسلامه قبل إسلام عمر، وكان يكتم إسلامه، ومنعه قومه- لشرفه فيهم- من الهجرة؛ لأنه كان ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم ويمونهم، فقالوا: أقِم عندنا على أيِّ دينٍ شِئتَ، وأقم في ربعك، واكفِنا ما أنت كافٍ من أمور أهلنا، فوالله لا يتعرض أحدٌ إليك إلا ذهبَت أنفسنا جميعًا. ثم هاجر إلى النبي ﷺ قبيل فتح مكة، فاعتنقه، وقال له لما قدم عليه: «قَوْمُكَ يَا نُعَيْمُ كَانُوا خَيْرًا لَكَ مِنْ قَوْمِي لِي»، قال: بل قومك خيرٌ يا رسول الله. قال رسول الله ﷺ: «قَوْمِي أَخْرَجُونِي وَأَقَرَّكَ قَوْمُكَ». فقال نعيم: يا رسول الله، قومُك أخرجوك إلى الهجرة، وقومي حبسوني عنها»(4).
ولكن الشرط في هذا- كما سبق- القدرة على إظهار الدين والأمن من الفتنة فيه، وقد هاجر كثيرٌ من المسلمين خارجَ ديارِ الإسلام فأُحسنت وفادتهم في الجملة، فأقاموا فيها مؤسساتهم الإسلامية، وأنشئوا فيها مساجدهم ومراكزهم التعليمية، ولم يجدوا في ذلك تضييقًا ولا عنتًا، فانتقلت المسئولية في ذلك إلى عاتقنا- نحن المقيمين في هذه البلاد من المسلمين- وأصبح واجبنا في المحافظة على أنفسنا وعلى ناشئتنا من ناحية، ورد الجميل للمجتمعات المضيفة من ناحية أخرى، وذلك بإقامة المؤسسات الدعوية والتعليمية التي تحفظ على أجيالنا هويتها، وتُبقي لها خصوصيتها الدينية والثقافية، وتسهم في إرساء مفاهيم الوسطية والاندماج الواعي في هذه البلاد.
إن غياب هذه المؤسسات أو ضعفها يعني الانسلاخ التدريجي من الهوية لسانًا وديانة، كما قيل: إن الجيل الثاني من المهاجرين مهدد بفقد اللغة، أما الجيل الثالث فإنه مهدد بفقد الدين واللغة جميعًا!
والخلاصة: أنه لا حرج في الإقامة في هذه البلاد لمن كان قادرًا على إظهار دينه، وآمنًا من الفتنة فيه.
وأما حديث: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْـمُشْرِكِينَ» فإن مورده فيمن لم يكن قادرًا على إظهار دينه، أو لم يكن آمنًا من الفتنة فيه، فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي، عن جرير رضي الله عنه : أن النبي ﷺ بعث ساريةً إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْـمُشْرِكِينَ»، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»(5).
وقد أورد ابن قدامة هذا الحديث في «المغني» ثم قال: «إذا ثبت هذا، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدهما: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، أو لا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، وهذا وعيدٌ شديدٌ يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.

الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها؛ إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه؛ لقول الله تعالى:﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾} [النساء: 98]، ولا توصف باستحباب؛ لأنها غير مقدور عليها.

والثالث: من تستحب له ولا تجب عليه، وهو: من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إقامة دينه وإظهاره في دار الكفر، فتستحب له؛ لتكثير المسلمين ومعونتهم، ولا تجب عليه؛ لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة، وقد كان العباس عم النبي ﷺ مقيمًا بمكة مع إسلامه، ورُوي أن نعيمًا النحام، حين أراد أن يهاجر جاء قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد، فقال له النبي ﷺ: «قَوْمُكَ كَانُوا خَيْرًا لَكَ مِنْ قَوْمِي لِي، قَوْمِي أَخْرَجُونِي وَأَرَادُوا قَتْلِي، وَقَوْمُكَ حَفِظُوكَ وَمَنَعُوكَ»، فقال: يا رسول الله، بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه، وقومي ثبَّطُوني عن الهجرة وطاعة الله. أو نحو هذا القول». انتهى(6). والله تعالى أعلى وأعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير» حديث (1865) من حديث رضي الله عنه .
(2) «شرح النووي على صحيح مسلم» (13/9).
(3) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (11/202) حديث (4861)، والبيهقي في «الكبرى» (9/17) حديث (17551).
(4) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (62/178)، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (4/1508).
(5) أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «النهي عن قتل من اعتصم بالسجود» حديث (2645)، والترمذي في كتاب «السير» باب «ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين» حديث (1604) من حديث جرير بن عبد الله ، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2645).
(6) «المغني» (9/237).

تاريخ النشر : 08 أغسطس, 2017
التصنيفات الموضوعية:   03 العقيدة, التصنيف الموضوعي

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend