الجهاد وتوجيهه في كتب الدكتور صلاح الصاوي

أرجو منك فضيلة الشيخ توضيحًا حول ما جاء في كتابكم «الثوابت والمتغيرات» صفحة 310 طبعة دار الأندلس الخضراء؟
فقد قلتم حفظكم الله: هذا ولا يبعد القول بأن مصلحة العمل الإسلامي قد تقتضي أن يقومَ فريقٌ من رجاله ببعض هذه الأعمال الجهادية، ويُظهر النكير عليها آخرون, ولا يبعد تحقيق ذلك عمليًّا, إذا بلغ العمل الإسلامي مرحلة من الرشد أمكنه معها أن يتفق على الترخُّص في شيء من ذلك ترجيحًا لمصلحة استمرار رسالة الإسلام في هذه المجالس بغير تشويش ولا إثارة .اهـ.
ثم جاء في كتابكم «مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي» صفحة 108 ما نصُّه: توثيق الصلة مع الفصائل العامة للإسلام كافة والحذر من إسقاط الشرعية عن أعمالهم الدعوية أو الجهادية ولو بإشارة عارضة لا يستثني من ذلك إلا الفصائل التي تدعو إلى التفجير والعنف داخل المجتمعات الإسلامية والتي يذهب ضحيتها أبرياء…..اهـ.
فهل هذا النص الثاني رجوعًا منكم عن النص الأول؟ أم المراد بالثاني الأعمال التفجيرية داخل البلاد الإسلامية، والمراد بالنص الأول الأعمال التفجيرية داخل بلاد الكفار؟
وأرجو منكم توضيح رأيكم في هذه القضية عمومًا وبوضوح تام. وجزاكم الله خيرًا ووفقكم الله.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فبادئ ذي بدء أود أن أنبِّه إلى أن الحديث عن العمليات الجهادية الذي جاءت في كتاب «الثوابت» أو في غيره من الكتب إنما يتَّجه بالأصالة إلى ما يقع من هذه الأعمال في مواقع الجهاد المشروع الذي تمايز فيه الصفان وتحيز فيه الفريقان، واكتسب العمل الجهادي فيها شرعية عامة يقرها علماء الأمة وأهل الحل والعقد فيها.
لقد كتب هذا الكتاب وغيره من الكتب في أواخر الثمانينات وعلى أرض باكستان، حيث الجهاد الأفغاني الذي كان في أوجِه يومها، والذي قبلت به الأمة قاطبة علماء وعامة، جهات رسمية ومؤسسات شعبية، ودفعت إليه الأمة بفلذات أكبادها، ورصدت له نفائس أموالها، وقد كان على رأس هؤلاء علماء بلاد الحرمين، وأمراؤها، فقد أفتى علماء هذه البلاد بمشروعية هذا الجهاد وباركوا خطواته، وأفتوا بمشروعية دفع الزكاة إليه، وتجاوب أمراؤها مع علمائها، حتى كانت الخطوط الجوية الوطنية في هذه البلاد تمنح للمسافرين إلى مواقعه تخفيضًا كبيرًا في تذاكر السفر تشجيعًا للنفير العام إلى هذا الجهاد، ومباركة للمشتغلين به، فإلى هذه المواقع وأمثالها على أرض فلسطين وكشمير وما فتح فيما بعد من جبهات على أرض العراق وعلى أرض سراييفو وفي الشيشان ونحوها تنصرف هذه الكلمات وتفهم هذه العبارات.
أما داخل المجتمعات الإسلامية فإن الذي أدين به، وأعتقد أنه منهج أهل السنة والجماعة، أنه لا يجوز الخروج المسلح على السلطان إلا في حال الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وحتى في حال الكفر البواح، لا ينبغي أن يكون الخروج تغريرًا بالأنفس والأعراض فيما لا طائل تحته، بل إن كان لدى أهل الحق من القوة ما يطمعون معها في الظفر، فقد تعيَّن الجهاد لإقامة الدين، وإلا خوطبوا بأدلة الصفح والصبر والمغفرة للذين لا يرجون أيام الله، حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده.
وقد تكون الهجرة إن تيسرت أسبابها من البدائل المقبولة في مثل هذه الحالة، وذلك متروك لأهل الحل والعقد في كل محلة.
والعجيب أن آخرين يذكرون في انتقاداتهم نقيض هذا الذي تذكره، فيعتبون عليَّ ما يرونه- حسب تقديرهم- من مهادنتي، ودعوتي إلى المؤالفة، وعدم التجاوب مع دعوات الغلو التي تدفع بشباب هذه الأمة إلى المحرقة.
فحيثما وجد السلطان المسلم الذي لا ينتحل العلمانية، ولا يعلن الكفر بمرجعية الشريعة، ولا يتوجه بشعائره التعبدية لغير الله  فلزوم جماعته واجب، ويكون لزوم طاعته في غير معصية لزومًا للجماعة التي أمر النبي صلى الله عليه سلم بلزومها، وحذر من مفارقتها، ويكون السعي في حل عقدة إمامته جريمة، وانسلالًا من الربقة، ومفارقة الجماعة. وحيثما شغر الزمان عن مثل هذا السلطان فلزوم جماعة العلماء وأهل الحل والعقد في جماعة المسلمين، وهم الذين يوجهون الأمة، ويقودون مسيرتها على وفاق الشريعة.
ولعل من نافلة القول أن نُؤكِّد أنه لا علاقة بهذه الكلمات بما يجري في بلاد الحرمين خاصة من أعمال فجَّة، فذلك مناط لم يتَّجه إليه قصدنا طرفة عين، وها نحن نقرر بجلاء أن أرض الحرمين لها قيادتها السياسية التي لا يجوز تجاوزها في قليل أو كثير إذا تعلق الأمر بجهاد تنطلق شرارته من هذه الأرض المباركة، كما نؤكد مرة ثالثة أنه لا علاقة له كذلك بما يجري داخل البلاد الإسلامية التي لم تتعرض لغزو خارجي، ولم تفتح فيها جبهات جهاد مشروع يتمتع بشرعية عامة وتباركه الأمة كافة علماء وعامة.
ولقد نبَّه كتاب الثوابت على هذا المعنى تنبيها جليًّا مباشرًا على هذا المعنى، فقد جاء فيه تحت عنوان (استدراك واجب) ما نصه:
وقبل أن نشرَع في تفصيل القول في هذه القضية أودُّ التنبيه إلى أن ما يرد في هذا الفصل من قواعد وضوابط لا علاقة له بتلك الأعمال الفجَّة التي تقع داخل ديار الإسلام من التفجيرات والاغتيالات ونحوها، والتي يذهب ضحيتها الأبرياء من العامة وأشباه العامة، والتي تدفع بالعمل الإسلامي ورجالاته إلى المحارق، وتترك في نفوس الأمة آثار أسيفةً مُوجعةً قل أن تمحوها الأيام والليالي، فضلًا عن تضمن هذه الأعمال في ذاتها من المخالفات الفقهية والمنهجية ما يُسخط الله عز وجل، ويستوجب عذابه ومقته.
وإنما مناط الحديث عن هذه القواعد وتطبيقها هو هذه المناطق التي تمايز فيه الفريقان، وافترق فيها الصفَّان، واكتسب العمل الجهادي فيها شرعية عامة يُقرِّها علماء الأمة وأهل الحل والعقد فيها، ومن أظهر الأمثلة على ذلك ما جرى على أرض أفغانستان من الجهاد الذي قبلت به الأمة قاطبة علماء وعامة، جهات رسمية ومؤسسات شعبية، ودفعت إليه الأمة بفلذات أكبادها، ورصدت له نفائس أموالها.
إن هذا الفصل في هذه الدراسة يُؤكِّد قبل أن نشرع في عرض محتوياته– كما أكدت سائر أعمال صاحب هذه الدراسة من قبل- أن أعمال الجهاد لا تنفردُ بالقرار فيها مجموعات مغامرة، تقامر بحاضر الأمة ومستقبلها هنا أو هناك، فتجرُّ الأمَّة وراءها إلى محرقة لا تُؤمَن عواقبها.
إن الجهاد من الأمور العظام التي تفوض إلى الإمام، فإن لم يوجد فإلى علماء الأمة الكبار وأهل الحل والعقد فيها، حتى لا تجرُّ الأمة إلى المحرقة بفعل فئة قليلة من أغمارها وسفهائها مهما قيل عن إخلاصهم ونقاء سرائرهم.
فإذا فهم السياق الصحيح والمناط الصحيح لهذه الكلمات المتعلقة بالقصد في إدانة أعمال العنف التي تنسب إلى فريق من المجاهدين استطعت أن تُحسِن تقويمها، وأن تقبل بها أو ترفض بوعيٍ وعدلٍ وبصيرة. إننا لا نستطيع أن ندين المقاومة في العراق بمعزل عن إدانتنا للاحتلال الأمريكي الذي أهلك الحرث والنسل، واغتال كل مقومات الشعب العراقي، واستطال على حرمات أبنائه، فلو نسبت أعمال مجافية للقصد إلى بعض فصائل المقاومة في هذه الظروف فليس من الرشد، ولا من العدل، بل ولا من الدين أن نُنكر عليها بمعزل عن إنكارنا على المنكر الأكبر الذي تولت كبره جحافلُ الاحتلال، والذي حشد الجميع في خندق المقاومة، فكان منهم الغلاة وكان منهم أهل القصد والبصيرة. وقلَّ مثلُ ذلك في كل مواقع الجهاد الأخرى التي تعرضت لاستباحة فاجرة من قبل جيوش غازية معتدية باغية.
ومن ناحية أخرى فقد تعاقبت على طباعة كُتبي دُور نشر مختلفة، وكانت القاعدة عندي هي السماح للجميع تحرجًا من كتمان العلم، ولم يتح لي مراجعة طبعة من هذه الطبعات مراجعة دقيقةً متأنية إلا مؤخرًا جدًّا، لاسيما وقد هاجرت إلى الغرب منذ قرابة ربع قرن أو يزيد وانقطع حديثي في هذه القضايا بالكليًّة، لاختلاف المناطات، وتغير الظروف والأحوال، وتجدد قضايا جديدة في الغرب أصبحنا أكثر اشتغالًا بها وكتابة فيها. وما يفهم من كلماتي المكتوبة أو المسموعة ما يُخالف الحق، فأنا راجع عنه في حياتي وبعد مماتي، والقول ما قاله الله، وقاله رسوله ﷺ، وفهمه علماء الأمة الأثبات، فنحن على منوالهم ننسج، وعلى خطاهم نسير، فهم الأحكم والأعلم والأورع، والله الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية, 07 الجهاد

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend